شعار قسم مدونات

ابن الرومي.. الشاعر الذي قتله شعره!

blogs ابن الرومي

بدايةً علينا أن نُقر بأن الإنسان بطبيعته ليس آلة جامدة؛ بل هو بشرٌ يؤثر ويتأثر، ويمكننا القول أنه خلاصةٌ لعدة عوامل تتضافر سويةً لتشكل الناتج النهائي الذي نراه من مواقف وتصرفات، ومن أهم تلك العوامل: الحالة النفسية، والظروف المعيشية، وكذلك مدى الاستقرار فيدشتى نواحي الحياة، وعوامل أخرى. مثلاً تجد لاعب كرة القدم الذي ينعم باستقرار مادي ومعنوي ومزاحٍ جيد ينعكس ذلك على أدائه على أرض الملعب على نحو جيد، وكذلك الكاتب حين يصفو مزاجه تراه يُسقط علينا لوحات أدبية غاية في الجمال، في المقابل إن تعكر مزاجه وأراد أن يكتب عن نفس الموضوع ستجد بينهما اختلافاً كبيراً!

وقد يسأل سائلٌ عن الرابط بين هذه المقدمة وبين ابن الرومي بصفته شاعراً، وتكمن الإجابة في الأسطر القادمة التي تزيل الستار عن جانبٍ مهمٍ جداً من حياة الشاعر ابن الرومي وطِباعه، وهي التي تساعدنا على فهم شخصيته وما آلت إليه حياته، فمن هو ابن الرومي؟ وكيف قتله شعره؟

عاصر ابن الرومي ثمانية عصور من الخلفاء العباسيين، وبرغم طول هذه المدة، وعلى الرغم من إجادته للشعر؛ إلا أنه كان منبوذاً من الحاكم في كل مرة

يعد ابن الرومي من نخبة الشعراء العباسيين، بغدادي المولد رومي الأصل وأمه فارسية، شهدت حياته الكثير من المآسي والشدائد التي جعلت منه شخصية مزاجية تميل إلى الكآبة والانغلاق، ومن هذه المحن التي عصفت به وفاة والديه وأخيه الأكبر، وبعد زواجه توفيت زوجته وأولاده الثلاثة، وفي ذلك يقول الناقد المصري الراحل طه حسين "كان سيء الحظ في حياته، ولم يكن محبباً إلى الناس، وإنما كان مبغضاً إليهم، وكان مُحسداً أيضاً، ولم يكن أمره مقصوراً على سوء حظه، بل ربما كان سوء طبيعته، فقد كان حاد المزاج، مضطرباً، معتل الطبع، ضعيف الأعصاب، حاد الحس جداً، يكاد يبلغ من ذلك الإسراف" فكان نتاج ذلك كله أن خرج إلى العالم بقصائد تنوح، وتبكي، وكانت أشعاره بمثابة المساحة الحرة التي يفرغ فيها كبته وحسرته.

وعند الحديث عن شعره، وبالرغم من أن الهجاء قد حاز على حصة الأسد من مجمل أشعاره؛ إلا أنه أبدع في ألوان أخرى مثل وصف الطبيعة، والمدح، والرثاء، والفخر، وقد تميزت قصائده بالحيوية، وصدق الإحساس الذي يخترق حدود البيت الشعري، إضافة إلى الواقعية وعدم التلفيق، والاهتمام بالتناغم الشعري والقافية.

ومن المعلوم قديماَ أن العلاقة بين الشعراء والملوك كانت علاقة استثنائية، حيث كان الشعراء بمثابة الواجهة الإعلامية للملوك، بينما كان الملوك يمثلون المال والحماية والرتبة بالنسبة للشعراء، وقد عاصر ابن الرومي ثمانية عصور من الخلفاء العباسيين، وبرغم طول هذه المدة، وعلى الرغم من إجادته للشعر؛ إلا أنه كان منبوذاً من الحاكم في كل مرة، لا يُقبل له شعر، ولا يغترف من عطايا الحاكم شيئاً، فما كان منه إلا أن استغل شعره في هجاء كل من حوله، وقد قال المؤرخ المرزباني عنه "لا أعلم أنه مدح أحداً من رئيس أو مرؤوس إلا وعاد إليه فهجاه ولذلك قلتّ فائدته من قول الشعر وتحاماه الرؤساء".

وقد كان التخلص من ابن الرومي مطلباً للعديد من الوزراء والحكام، حتى يتخلصوا من لسانه الحاد المسلط عليهم، فما كان من وزير المعتضد القاسم بن وهب إلا أن خطط لقتل ابن الرومي مسموماً خوفاً من أن تطاله سهامه بالهجاء، وقد دس السم في الحلوى المقدمة لابن الرومي في إحدى المجالس عن طريق شخص يدعى ابن الفراش، ثم تناول ابن الرومي السم، وبدأ يسري في جسده، ويعطي مفعوله، فقرر ابن الرومي ترك المجلس، فسأله الوزير ساخراً : إلى أين أنت ذاهب؟ فأجابه: إلى المكان الذي بعثتني إليه! فقال له الوزير: سلم على والدي، فأجابه ابن الرومي: ليس طريقي النار! ثم توفي، ليثبت للجميع أن لسانه لا يكلّ من التسلط على الآخرين، حتى عند آخر أنفاسه، ليختتم حياته على ما كانت عليه دوماً، ويترك لنا إرثاً أدبياً عظيماً لا مثيل له، جعل منه واحداً من عمالقة الشعر عبر التاريخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.