شعار قسم مدونات

سترة النجاة تحت المقعد

blogs طائرة

لحظات تأمل أجبرتني عليها رحلة فوق السحاب، اتلفت إلى ذلك الرجل على يميني وهو يغط في نوم عميق.. وما العجب في ذلك؟! فالجو هادئ والرحلة مستقرة، والارتياح يبدو حاضرا على وجوه المضيفات، وصوت امرأة تداعب طفلها بلهجة سورية تجلس خلفي، تحاول إقناع هذا الطفل بالسكوت حتى لا يزعج الآخرين، جلست أتأمل تلك العبارة على المقعد الذي أمام، (سترة النجاة تحت المقعد.. اربط الحزام أثناء جلوسك) أية نجاة؟!.. النجاة تبدو شبه مستحيلة، من أفكار لازمتني منذ أن وضعت قدمي في هذه الطائرة!

  

أغمضت عينَيْ محاولا إقناع نفسي بالنعاس، لعلي أحظى بساعة من النوم أكسر فيها الزمن، أو على الأقل أتجاهل تلك العبارة التي على المقعد، والتي وجدت في نفسي مستقرا لها مع ما كان يدور في خاطري، يبدو أنها حالة رافقتني منذ بداية الثورة في سوريا قبل تسع سنوات، وقد تكون نتيجة لسنوات الملاحقة التي عشتها من قبل النظام الحاكم هناك، وهناك الأمس هو تحت الآن، فنحن نعبر الجزء الشرقي فوق الأراضي السورية متوجهين في رحلة عمل إلى مدينة الدوحة.

  

تحاول إحدى المضيفات الهمس في أذن جاري النائم لتقديم قائمة الطعام له، وذاك الجار لم يتردد في الاستيقاظ ومراجعة القائمة ليستقر رأيه على وجبة المعكرونة المغطاة بالصلصة الحارة، تفوح منها رائحة زكية، وقبل أن تسألني المضيفة.. قلت لها وأنا كذلك أريد المعكرونة، عدوى المعكرونة تنتشر سريعاً في الجوار، فالمرأة السورية تقول لطفلها "بدك معكرونة.. كتير طيبة". يبدو أنها هي من يتلذذ بالطلب، فالطفل ذو الثلاثة أعوام لا يميز بين المعكرونة والبطاطا.

  undefined

  

كان ضجيج الأفكار في رأسي كبيرا جداً، فجأة تبدأ الطائرة بالاهتزاز بقوة كأننا نعبر في مطب هوائي، أصوات الإنذار تخرج واشارات الأحزمة تبدأ تشتغل وتنطفئ، المضيفات يحاولن إرسال الاطمئنان عبر الابتسامات إلى الركاب بأن ما يحدث أمر اعتيادي الاهتزاز مستمر ويزداد! والجميع ينتظر صوتا من قمرة القيادة يطمئن الركاب بأننا نعبر في مطبات هوائية اعتيادية نرجو ربط أحزمة الأمان والهدوء في أماكنكم! من النافذة ألمح دخانا يخرج من أحد المحركات في الطائرة! يا إلهي!! ما الذي يحدث؟! المرأة خلفي تئن وتبكي بصوت خاشع وطفلها يصرخ بصوت عال، خوف وأصوات دعاء ترتفع من الركاب.

 

كل هذا يحدث خلال دقيقة ولا يزال الجميع بما فيهم أنا ننتظر صوت المكبر من قائد الطائرة.. دخان واهتزاز.. ورعب بدا ظاهرا حتى على وجوه المضيفات! هذه ليست مطبات هوائية اعتيادية، نحن نتعرض لكارثة فوق السحاب، بعد لحظات.. خرج الصوت المنتظر، سيداتي وسادتي معكم قائد الطائرة.. نواجه خللا في أحد محركات الطائرة، ونطمئن الجميع بأنه لا يوجد خطر كبير، لكننا سنضطر إلى هبوط اضطراري في مطار دمشق، نرجو من الجميع الهدوء والبقاء في أماكنكم.

 

لا يوجد خطر؟! هدوء!.. وهل أقوى على شيء سوى الهدوء يا سيدي؟! هل تعلم ما الذي قلته الآن؟ أنت تعلن نجاتي من موت إلى آخر.. تغير لي طريقة الموت فقط..هبوط في دمشق! ليتك قلت إنها النهاية.. هل تعلم أنني مطلوب إلى النظام هناك؟ هل تعلم أنه لاحقني وحاول اغتيالي؟ كيف سيكون وجه ذلك الضابط عندما يصعد إلى هذه الطائرة بعد هبوطها وهو يطلب مني جواز سفري؟ وكيف ستكون ردة فعله عندما يعلم أنني طريدة أسقطها القدر من السماء؟!

 

هل تعلم يا قائد الطائرة ما هي التهم التي تنتظرني؟ وما هي أصناف العذاب التي تتوعدني؟ هل سمعت عن قصص التعذيب لأناس خرجوا من هناك، بتهم أقل من تهمتي؟ هل شاهدت صورهم؟ هل شاهدت تلك الصور المسربة لخمسين ألف جثة انكمشت بسبب الجوع وتظهر عليها بقايا سجائر أطفأها السجان فيها! هل تعلم أنني سأتمنى الموت في مطب هوائي ألف مرة؟!ليتك قلت إن هذه الطائرة ستسقط في البحر! يا رب.. هل أنا أحلم؟

  

اف.. حمدا لله بالفعل إنها هواجس وضجيج أفكار لا أقوى حتى على إكمالها، بصعوبة بالغة خرجت منها.. ويبدو أن جاري انتهى من وجبة المعكرونة في الوقت الذي قضيته أنا في دمشق 🙂 دقائق قليلة مرت وخرج صوت قائد الطائرة عبر المكبر ولكن هذه المرة بلحن مختلف، سيداتي وسادتي معكم قائد الطائرة.. أتمنى أن تكونوا في أحسن حال، نحن الآن في الأجواء القطرية وسنهبط بعد قليل في مدينة الدوحة، شكرا لكم، بل الشكر لك يا سيدي، يبدو أنه أجمل شكر سمعته منذ سنوات 🙂 أمسكت هاتفي والتقطت صورة للعبارة على المقعد، والتي ستبقى محفورة في ذاكرتي وذاكرة من يقرأ كلماتي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.