شعار قسم مدونات

الاستغلال السياسي للدين.. كيف تم استخدام الشحن المذهبي بالصراع العثماني الصفوي؟

blogs الدولة الصفوية

حاولنا في مقالاتنا السابقة أن نحلل الترابط الذي كان قائما بين الدين والدولة في بعض التجارب السياسية في العالم الإسلامي واخص بالذكر هنا الدولتين "البرغواطية" و"الموحدية". وخلصنا في نهاية الأمر إلى أن ما ميز التجربتين هو استغلالهما للدعوة الدينية لتحقيق أهداف سياسية، أو جعل الدعوة الدينية غطاء للمصالح السلطوية، مع الوعي بأهمية الوازع الديني-الإيديولوجي في التأثير على الشعوب والقبائل، وضمان وحدة الدولة واستمرارها ككيان سياسي. وسيرا على نفس النهج والسياق، سوف نحاول من خلال هذه المقالة أن نتطرق لموضوع يعتبر من الأهم مما كان، ويتعلق الأمر بإشكالية الصراع الذي عرفه العالم الإسلامي في مرحلة القرن السادس عشر، والتي تعتبر من أهم مراحل التاريخ الإسلامي تأثيرا في الأفكار والمؤسسات وفي الوعي والذاكرة لدى الأفراد والجماعات في حاضر العالم الإسلامي، المرحلة التي شهدت قيام الدولة العثمانية في آسيا الصغرى (تركية)، والدولة الصفوية وامتدادها القاجاري في إيران. والصراع الذي كان قائما بينهما من أجل السيطرة والتوسع في مناطق العالم الإسلامي. واستمرار في نفس السياق، سوف نركز على الصراع الإيديولوجي-الديني وكيف تم استخدام الشحن المذهبي في خدمة المصالح السياسية.

من الملاحظات المهمة التي يمكن إثارتها بداية، هي عن أهمية هذه المرحلة التاريخية والتداعيات التي خلفتها على العالم الإسلامي، سواء في الجانب الاجتماعي أو الجيوسياسي. إذ أن هاتين الدولتين هما آخر الدول الكبرى التي أعلنت انتسابها للشريعة الإسلامية. كما أنهما شهدتا صراعا كبيرا من أجل السيطرة والتوسع في العالم الإسلامي، والأهم أن كلا من الدولتين في صراعها مع الأخرى اعتمدت في تبرير هذا الصراع على مجموعة من الوسائل الأيديولوجية، وكان أبرزها وأهمها بالنسبة لنا "التعبئة الدينية"، وفقا لطقوس معينة في ممارسة الشعائر الدينية (الشعائر الصوفية لدى العثمانيين والشعائر الحسينية لدى الصفويين) ووفقا الاجتهادات كلامية وفقهية معينية (الأمامية الاثني عشرية لدى الصفويين، والمذهب السني الحنفي لدى العثمانيين) الأمر الذي أعطى صراع الدولتين السياسي والاقتصادي والاستراتيجي في مناطق العالم الإسلامي صبغة دينية مذهبية. وهذا ما سنحاول نحن النبش في تفاصيله على اعتبار أهمية هذا الطرح من خلال البحث التاريخي في العلاقة بين السياسة والدين، بين الدولة والدعوة، بين السلطان والفقيه، وأوجه الاستخدام الوظيفي للدين بما هو عامل أيديولوجي مؤثر ومتحكم وفاعل أساسي في الدولة والمجتمع.

الصراع بين الدولتين العثمانية والصفوية هو في أساسه صراع سياسي، يتمثل أساسا في البحث عن السلطة والقوة والتوسع في مناطق العالم الإسلامي، لكنه كما رأينا اتخذ بعدا مذهبيا كان هو المميز لهذا الصراع

لن نخوض في مراحل الصراع التاريخي بين الدولتين، لأن هذه أمور معروفة وموجودة في كتب التاريخ، بقدر ما سنحاول النبش في الصراع المذهبي واستخدام الدين في هذا الصراع. ذلك أن الوجه المذهبي لهذا الصراع كان الأكثر بروزا وشهرة في رأي العديد من المؤرخين. فلما كان الصفويون يحاولون بناء امبراطورية عظيمة تستطيع الوقوف في وجه العثمانيين، حاولوا خلق هوية مذهبية خاصة بهم، تمكنهم من إضفاء الشرعية على حكمهم والتوسع في الأراضي المتاخمة لأراضيهم. ومن تم أعلنوا عن تحويل إيران إلى المذهب الشيعي الإثني عشري. من جهة أخرى حاول العثمانيون إدخال العامل المذهبي في هذا الصراع، فقد نظروا إلى أنفسهم كمدافعين عن الإسلام السني. ومن الحوادث المهمة التي تعتبر من أوجه هذا الصراع، إن السلطان سليم الأول عند توليه للسلطة قام بذبح أكثر من أربعين ألفا من رعاياه الشيعة المقيمين في منطقة الأناضول. وقد عملت الدولتين على الإبقاء على هذا الاختلاف المذهبي على أشده، لتتمكنا من تحريك عامة الناس ضد الطرف الآخر ودحره.

من الأوجه الأخرى لهذا الصراع هي الفتاوى الدموية الداعية إلى القضاء على الطرف الآخر، فنجد مثلا أنه في زمن السلطان مراد الثالث أفتى الشيخ نوح الحنفي بموجب قتل الشيعة تابوا أو لم يتوبوا. ومن أمثلة الفتاوى أيضا، ما افتى به حسين بن عبد الله الشرواني، في أحد كتاباته التي تحمل عنوان "الأحكام الدينية في تكفير القزلباش" أنه من قتل أحدا من الشيعة كأنما قتل وغزا سبعين نفرا من أهل الحرب. وقد ساهمت هذه الفتاوى في تضييق الخناق على الشيعة الصفويين، الذين سيأتي ردهم باستهداف علماء ورموز السنة، بحيث سيعملون على قتل شيخ الإسلام بهراة، سيف الدين التفتازاني. وأهانوا ودمروا العديد من الأضرحة والقبور الخاصة برموز السنة. ويذكر عبد الله أفندي في كتابه "رياض العلماء" أن الكثير من العلماء الشيعيين قاموا بالرد على فتاوى الشيخ الشرواني ونوح الحنفي، حتى أن الشيخ علي الكمرهاي رد على أحد الفتاوى في مجلدين كاملين. كما ظهرت العديد من المؤلفات التي تكفر السنة منها "موسوعة بحار الأنوار" لمحمد باقر المجلسي. حتى أن المجاهرة بلعن وسب رموز المذهب السني في إيران أصبح أمرا مباحا وشائعا، بل أن من تردد في القيام بهذا الأمر كان يتعرض للعقوبة أو القتل.

إن الصراع بين الدولتين العثمانية والصفوية هو في أساسه صراع سياسي، يتمثل أساسا في البحث عن السلطة والقوة والتوسع في مناطق العالم الإسلامي، لكنه كما رأينا اتخذ بعدا مذهبيا كان هو المميز لهذا الصراع، إذ يعرف الصراع المذهبي بين السنة والشيعة في هذه المرحلة أكثر مما يعرف الصراع السياسي بين العثمانيين والصفويين. وإذا ما حاولنا الربط بين ما تطرقنا له في هذه المقالة وما استخلصناه في مقالاتنا السابقة عن الترابط بين الدين والسياسية واستغلال هذه الأخيرة للدين في الصراعات السلطوية والتوسعية، سوف نجد بأن هذه الصراع السني-الشيعي ما هو إلا وجه من أوجه هذا التوظيف والاستغلال. فلما كانت الدولة الصفوية كما رأينا تسعى الى فرض نفسها كقوة إقليمية في وجه التوسع العثماني ما كان لها الا ان تحول إيران إلى المذهب الإثني عشري، في مقابل ذلك كان العثمانيون هم المدافعون عن المذهب السني في وجه التوسع الصفوي-الشيعي في المنطقة. فالصراع في أساسه ليس صراع مذاهب وقيم، بل هو صراع قوى وأهداف، وما الدين إلا وسيلة من وسائل هذا الصراع.

إن هذا الصراع وهذا التوظيف للدين في السياسة لم يقف في هذه المراحل التاريخية، فمن الصعب الفصل بين ماضي الدولة وحاضرها، ولا بد أن تجد ترسبات الماضي في حاضر كل أمه، لكن المشكل هو أن يساهم هذا الماضي في تخلف الأمة وتراجعها حاضرا ومستقبلا. فنهاية هاتين الدولتين في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تزامنت مع بداية تبلور المشروعات القومية وقيام مشروعات الدول القومية المحدثة في العالمين العربي والإسلامي، الأمر الذي أعطى للمشكلات الإقليمية اللاحقة بعدا قوميا في العديد من المناطق الإسلامية. حيث كان للصراعات الدولية أثرها في إبراز هذه المشكلات وتوظيفها في الصراعات السياسية بين الدول الإقليمية الجديدة، وكل هذا كان من شأنه أن يجعل من التاريخ سلاحا في هذه الصراعات والتي لا تزال قائمة حتى الآن، ولا يزال العامل الديني-الأيديولوجي فاعلا أساسيا في هذه الصراعات السياسية التي تعتبر سياسية في الجزء الأكبر منها، لكنها تتخدد من الدين أو الثقافة أو الأيديولوجيات والقوميات أوجها للتغطية على أهدافها السياسية والاستراتيجية.
—————————————————————————————————————–
المراجع:
– وجيه كوثراني "الفقيه والسلطان"
– أكبر ذاكري "المشهد الثقافي الشيعي في العصر الصفوي"
– عبد الله أفندي "رياض العلماء"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.