شعار قسم مدونات

العزلة وطن آخر

blogs تأمل

العزلة مفهوم متناقض ومفارقة غنية، هناك من يعتبرها ضرورة ماسة يحتاج إليها ويسعى للحصول عليها وسط فوضى الحياة، وهناك من هم على النقيض ليس بمقدورهم إعتزال مخالطة الآخرين حولهم من أهل أو أصدقاء أو زملاء معظم ساعات يومهم وعلى اختلاف ظروفهم، بينما يرتبك محب العزلة بعيداً عن عزلته، بالنسبة إليه هي فن لا يتقنه إلا محترف باستطاعته تحويلها إلى إلهام مثمر.

  

غالباً ثمة وجه خاص أكثر صدقاً يتكشّف لنا حين ننأى بأنفسنا منفردين عن متاهات الدنيا، كافكا الذي عادة ما يتم الحديث عنه حين يتناول الكتّاب موضوع العزلة وذلك لانعكاس عزلته التي اشتهر بها بشكل جليّ على نصوصه وكتاباته، له قول جميل “خجلتُ من نَفسي عِندما أدركتُ، أنّ الحياة حفلةٌ تنكَرية، وأنا حضَرتُها بوجهي الحقيقي.” كل منا يدرك وحده الوجه الحقيقي لذاته، ذلك ما يجعل من العزلة فرصة التقاء بعيدة كل البعد عن أوجه الزيف الكثيرة حولنا، قد تكون العزلة منبر نعبّر من خلاله عن أسرار ليس باستطاعتنا مواجهة الآخرين بها بصمت غريب وحرّ يصرّح عما تعجز عنه الكلمات، بالنسبة لي أجدها أحياناً كنوع من حب الذات والبحث عن مكنون داخلي لا وجود له في مكان آخر، ولا شك في أنك تحتاج إلى الوحدة حتى تفهم نفسك أولاً قبل أن تتمكن من فهم العالم حولك.

   

العزلة لم تعد كالسابق، ونحن نعيش في عوالم اجتماعية عديدة منها الوهمي والافتراضي والواقعي مع أشخاص حقيقيين أو مع شاشات ذكية

ليس هذا فقط، بل قد تأتي أحيان نحتاج بها إلى عزلة داخل العزلة، شيء من قبيل أن تعتزل التفكير أو أن تحصر تفكيرك في هدف ما بعيداً عن فيض الأفكار التي تهاجمنا ونبقى محاصرين بها، فلم يعد بعضنا شغوف بعمله أو مسؤولياته المتراكمة وهو يترنح في دائرة يختلط بها المهم مع الأهم فيزيد ذلك من التوعك الإجتماعي والنفسي المنتشر بيننا هذه الأيام. فأمر العزلة عند محبيها ليس بعداً أو ترفاً بل في الغالب هي حاجة تتحول إلى عادة، يرحلون إليها بفعل قوة جذبها المغرية، ذلك الغياب العرضي يتيح فرصاً للتفكير والتأمل والعمل ليس لها بدائل في وجودهم الإجتماعي، ذلك بدون شك يفسر نزعة الفنانين والأدباء وربما العلماء إلى رغبتهم بالانعزال فهم يحاولون فهم نتاج أفكارهم وتحويلها إلى شيء ملموس والبحث في تجاربهم الخاصة، قد تكون العزلة طوق نجاة ومعنى صعب وحدهم باستطاعتهم فهمه.

  

الجميل في الأمر أن العزلة لم تعد كالسابق، ونحن نعيش في عوالم اجتماعية عديدة منها الوهمي والافتراضي والواقعي مع أشخاص حقيقيين أو مع شاشات ذكية، ما يعني أن هناك فائض من التواصل الاجتماعي، لذا لم تعد العزلة حالة مذمومة تشعل الفضول لبحث أسبابها وإسقاط العديد من التنبؤات النفسية على من يتسنى له أخذ فسحة فارغة إلا من نفسه، لأن معظمنا صرنا متشوقين للفرار من هذا التواصل الزائد في كمه وزمنه وأشكاله، بل الأجمل خبر قرأته منذ فترة لفتني ولا أذكر عنوانه بالتحديد لكنه تحدّث عن خرافات تدور حول العزلة وبرّأها من جميع ما ينسب إليها من أبعاد سلبية ودعم بالحجج العلمية دورها الكبير في تنمية الإبداع.

 

حقيقة بتُّ أعتقد أن تلك العزلة المؤقتة مطلب جماهيري نُجمع على حاجتنا له، وبأنها مكان نرتبط به لاحتضانه لجنوننا وهمومنا وصدقنا وكذبنا، مكان مراياه فقط تعكس ما تراه بشفافية مطلقة، قد نجد فيه هويتنا التي ضللّها الازدحام، تماماً كما قال دستوفسكي “العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله”.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.