شعار قسم مدونات

جمعنا الزواج وطلَّقنا الإنستغرام!

blogs هاتف

كان يوم جميل من أيام الربيع، فالجو فيه ما زال جميلا يقف باتزان بين حرارة الصيف وبرودة الشتاء دون الميل لأحدهما على حساب الآخر. كنت لتوّي أغيّر حفاض طفلي الصغير، كلّمتني أكثر من مرّة لكن يداي متسختان ويصعب الرد فورا، لكن كثرة إلحاحها بالاتصال جعلني أُجيب وكأني أمسك جوالي بملقط كي لا أوسخه، فقط لأخبرها أن تمهلني بضع دقائق وسأعاود الاتصال بها لكنها كانت ثوان حتى نسيت نفسي وأمسكت الهاتف بكامل يدي دون اكتراث للجراثيم والبكتريا التي تكاثرت بأعداد مهولة في هذه الثواني القليلة وعشعشت على هاتفي المسكين الذي لم يدرِ كمّ المصائب التي حلّت عليه من جميع الجهات حتى تلك البعيدة عنه بأميال قالت بصوت غاضب باكٍ: ملكة ما شاء الله لماذا لا تردّين!

انصدمت من أسلوبها على غير العادة فهي معروف عنها الهدوء واللطافة، ثم أردفت: أريد أن أخبرك بشيء وأنت أول واحدة أخبرها على اعتبار أنك (واعية) -لا أدري من ضحك عليها وأخبرها أني كما تقول لكن لا بأس صيت غنى ولا صيت فقر كما يقول المثل- صمتتْ ثانيتين بعد أن نفّست غضبها المحتقن قليلا في وجهي: لقد تطّلقت، ما عدت أحتمل العيش في مثل هذه العائلة التي كل شيء فيه متداخل ببعضه، لا حدود، لا مسافات، لا قواعد، ولا أصول، ولا أدب لدرجة أني أصبحت أرى صوري أنا وزوجي وأولادي وبيتي بزواياه في حساب أخته في الإنستغرام والسوشال ميديا، وأنا نفسي لا أقوم بنشر صوري على حساباتي الشخصية، والمصيبة الأكبر والأدهى هي أن زوجي يعتبر ذلك شيئا عاديا لا بل أقل من عادي، ويعتبر أنها أخته (وتمون على بيت أخيها)، ليس هذا وحسب بل أقاربه كلهم يمونون، لا استئذان ولا طلب السماح ولا أي نوع من مراعاة أن هناك كائن آخر شريك في هذا البيت وفي خصوصياته. وأنا هذا الشيء لا يروق لي ولا أعتبره عاديا بل هو اختراق خطير لخصوصيتي التي أحاول جاهدة للحفاظ عليها! وأنت تعلمين كم أنا إنسانة تمثّل لي خصوصيتي أولوية في حياتي وهذا ليس شيئا جديدا في شخصيتي ولست نادمة على ما فعلت! فقط أريد مشورتك في كيفية إخبار أولادي خاصة أنهم سينصدمون من الخبر كونهم لم يكونو موجودين في البيت حين وقع الطلاق ولا أعتقد أنهم متوقعون حدوث شيء كهذا.

أن ندخل بيت أحدهم يعني أن نترك قوانيننا جانبا عند مدخل البيت ونخضع لقوانين البيت الذي نحن فيه، يعني أن نطرق الباب قبل الدخول وأن نلقي السلام عند الدخول وأن نجلس باحترام دون حراك من مكان لمكان

قلت لها مهدأة: كل شيء وله حل وإن شاء الله غيمة صيف وتمرّ، لكنها أجابت بحدة: والله لست نادمة بالعكس أشعر أني تحررت من قيود لم أكن لأتحرر منها بغير ذلك خصوصا مع عقلية زوجي المتحجّرة، قلت: وأولادك يا عبير (اسم مستعار)!، قالت: إذا كان أبوهم لا يحترم أمهم فالأفضل أن يعيشو في الطلاق أفضل من الشجارات اليومية أمامهم بلا جدوى، ولماذا يجب دوما على المرأة أن تتنازل لتبقى الأسرة، هو يريدني أن أتنازل عن حقي في الخصوصية وأنا لن أتنازل عنه، هذا حقي حفظه لي ديني وعقلي وفطرتي السليمة، لم أطلب منه شيء مستحيل كل ما طلبته فقط خطوطا حمراء يضعها في التعامل مع من حوله فيما يخص منطقتي الخاصة فقط! طبعا حصل الطلاق بعد أن تبادلا الكلام الذي تحول لاتهامات، لمواقف تُذكر للمرة المليون، ثم كلمة منه، كلمة منها، ضربها، طلبت الطلاق، طلّقها، انتهت القصة.

من المسؤول عن الطلاق؟ هل معها حق فيما حصل؟ هل الطلاق هو الحل الأفضل؟ كل هذا لا يهم، المهم أن الطلاق قد وقع وأن هناك طفلان كانا نتاج هذا الزواج، أصبحا الآن ضحايا له بعد أن تحوّل إلى طلاق، عندما فكرت جيدا كيف أُصلح في هذه الحالة اكتشفت أنه لن ينفع الإصلاح بتهدأة عبير فقط، لكن يجب أن يشاركها في هذه الحالة زوجها، الإصلاح سيكون بالحل المشترك من طرفهما. وإذا ما تمحصنا جيدا بمثل هذه القصة القصيرة قد نستنتج بطريقة ما الحل السهل البسيط الذي كان من الممكن أن يضمن عدم تفاقم الأمور وتطوّرها لهذا الحد، وهو حل يتمثل بثلاث وجهات نظر: الحل من وجهة نظر عبير، هو في احترام خصوصيتها والاستئذان في كل شيء يخصها وكل شيء متعلق بها أو هي جزء منه من قريب أو من بعيد. أما الحل من وجهة نظر زوجها، فقد يتمثّل ببساطة بالتغاضي والتجاهل وعدم إعطاء الأمور أكبر من حجمها، و(بتكبير عقلها) وبتنحية الرسميات جانبا مع الأهل والأقارب مراعاة لصلة الرحم.

أما الحل من وجهة نظر الدين، فهو الحرص على أهمية الاستئذان في حياة البشر والتشديد على خطورة تجاهله مع القريب والبعيد، وذِكر ذلك في مواضع عدة في القرآن الكريم (خصوصا في سورة النور) والسنة النبوية الشريفة، وعليه سيكون في كفّة عبير إذا ما تم الاحتكام إليه ومن الأحاديث الصحيحة التي تشدّد على أهمية الاستئذان واحترام خصوصية الناس ما ورد عن الحبيب المصطفى (مَنِ اطَّلَعَ فِي بيت قوم بِغير إِذنهم، فقد حلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقئوا عينَه) رواه البخاري ومسلم. فما بالنا بمن يدخل بيوت الناس ويصور خصوصياتهم وينشرها على الملأ بدون استئذان! في الزمن القريب كان الاستئذان شيء مادي ملموس نراه في حياتنا اليومية، نطرق باب البيت قبل الدخول، نلقي السلام عند الدخول، إن جلسنا لا نتحرك من مكاننا إلا باستئذان مراعاة لحرمة البيت وخصوصية من فيه، وإن خرجنا ألقينا السلام مودعين.

أما الاستئذان في عصرنا الحالي -عصر التكنولوجيا- هو في أن تطرق باب مساحتي الخاصة وتستأذني في كل ما يخصني (سواءا في التصوير أو التاغ Tag، في بيتي، في مكتبي، في سيارتي، في أولادي وفي كل شيء حتى في أصابع يدي) ولي حرية الاختيار في أن أقبل أو أن أرفض مع احترامك لي في كلتا الحالتين، فلو كان الاحترام شجرة فالاستئذان هو ساقها، وهو ليس خيار أتقبله أو أرفضه بل هو أمر واجب عليي الانصياع له وتطبيقه. كم اخترقت السوشال ميديا خصوصياتنا وفتحت أبواب حياتنا على مصراعيه أمام القريب والغريب، هل هذا الشيء طبيعي؟ أبدا وبتاتا ومطلقا، وإن كان أحدا يخبرك بأن هذا الشيء عادي وطبيعي ويُشعرك بأنك معقد نفسيا لعدم مجاراتك إياه في ذلك، فلا تنصت له ولا تتنازل عن حقك ولا تجعله يشعرك بأنك الغريب لأنه هو الخطأ بعينه وإن أصبح كل الناس مثله، فأن يُجمع الناس على شيء لا يعني بالضرورة أبدا أنه الصواب، وأن تطالب بحق من حقوقك بالمقابل ولو كنت بمفردك لا يعني أبدا أنه الخطأ.

أن ندخل بيت أحدهم يعني أن نترك قوانيننا جانبا عند مدخل البيت ونخضع لقوانين البيت الذي نحن فيه، يعني أن نطرق الباب قبل الدخول وأن نلقي السلام عند الدخول وأن نجلس باحترام دون حراك من مكان لمكان، يعني أن نستأذن إذا ما أردنا الخروج من البيت ونسلّم عند مغادرته، يعني أن البيت وما فيه ينتمي لأصحابه وليس لنا ولكاميراتنا ولحساباتنا في السوشال ميديا. أن نستأذن قبل أن ننشر أي شيء يخص غيرنا يعني أن نحافظ على علاقات البشر بقالب الاحترام، وأن نحافظ على بيوت الناس من الخراب، وأن نجعل من يجلس معنا سعيدا كونه في أمان في منطقته الخاصة لا نخترقها إلا باستئذانه، ومن يأتيك من باب: هذا أخي يمون، هذه أختي، ابن عمي، ابن خالي، ابن أخي..إلخ، أغلق هذا الباب في وجهه بقوة ديننا العظيم الذي حفظ لنا هذا الحق وبقوة، وتذكر دائما أن من لا يعجبه بداية ما تريد من مساحة وخصوصية سيعجبه لاحقا عندما يعتاد على حفظ المسافة معك، وإن حصل ولم يعجبه فهي مشكلته التي ينبغي عليه حلها والتعامل معها وليست مشكلتك أنت.. على الإطلاق!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.