شعار قسم مدونات

إذا قمنا بثورة صناعية.. كيف سيكون شكل منتجاتنا؟

BLOGS مصنع

بعض المظاهر التجارية مثيرة للاهتمام، ومن هذه المظاهر التصاق صفات معينة في ذهن المستهلك عن بضاعة معينة، بحيث أن المستهلك حين سماعه باسم ماركة أو جنسية تسبق المنتج يرد إلى ذهنه شيء ما بخصوصها، مثلًا؛ البضائع الصينية منخفضة الثمن، والبضائع الألمانية عالية الجودة، وتتميز البضائع السويدية بالأمان العالي، والإيطالية بالرفاهية، وإذا قمنا ببحث عن معظم مطاعم الوجبات السريعة لوجدناها أمريكية، مثل سلاسل مطاعم كنتاكي وماكدونالدز، وهذا يُعرَف في عالم الأعمال بـ"الميزة التنافسية"، والتي تشير إلى مجموعة الظروف والشروط التي تضع شركة ما في موقف الأفضلية، فهي تدل على ما تستطيع شركة فعله وتتميز به وتحافظ عليه، ويعجز المنافسون عنه بنفس الدرجة، فهل هو التسويق وحده من ألصق هذه الصفات في أذهاننا؟

وربما يصبح هذا السؤال أكثر تعقيدًا وغموضًا إذا ما سُئِلَ بالطريقة التالية؛ هل تستطيع الشركات الصينية صنع بضائع عالية الجودة والثبات على ذلك؟ وهل تستطيع الشركات الألمانية صنعَ بضائع منخفضة الثمن والاستمرار في ذلك؟ بمعنى هل اختيار الميزة التنافسية للمنتَج قرار داخلي؟ أم هو فرض تُجبَر عليه الشركة أو الدولة؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال قام مايكل بورتر -وهو بروفيسور في كلية الأعمال التابعة لجامعة هارفرد- مع فريق بحثي مكون من أكثر من ثلاثين باحثًا بدراسة خصائص البضائع في عشرة دول، ومعرفة كيفية اكتساب البضائع لهذه الخصائص، والعشرة دول هي: الدنمارك، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وكوريا، وسنغافورة، والسويد، وسويسرا، وبريطانيا، وأمريكا، وهي دول شكل مجموع صادراتها أكثر من خمسين بالمئة من صادرات العالم عام 1985، وبعد أربع سنوات من البحث نشر بورتر نتائج دراسته في دورية هارفرد للأعمال بعنوان "الميزة التنافسية للأمم"، عام 1990، وقد خَلُص بورتر في دراسته أن هناك أربعة محددات تصنع بيئة محلية معينة تنمو فيها الشركات، ثم تخرج الشركات المحلية للمنافسة عالميًا بتلك الصفات نفسها التي اكتسبتها محليًا، وهنا تتضح الفروق بين الشركات القادمة من مناطق مختلفة من العالم، وتلك المحددات الأربعة -والتي شكلت نموذج ماسّة بورتر- هي:

الخصائص التي تكتسبها المنتجات -أو الخدمات- هي انعكاس مباشر للأنماط الإدارية المتبعة، والتي بدورها تُبنى على الثقافة المجتمعية، والثقافة المجتمعية تشكلت من عناصر مثل الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا

1- ظروف السوق، مثل وجود العمالة الماهرة محليًا، والبنية التحتية، والتي يعتقد بورتر أنها تُصنع في غالبها، ولا تورَث، كما كان يعتقد الاقتصاديون الكلاسيكيون من أمثال آدم سميث.
2- ظروف الطلب، والتي تجعل السلعة مطلوبة، وهي الظروف بمختلف أنواعها؛ التاريخية والجغرافية والدينية والصحية والاجتماعية…الخ، مثلًا يعيش اليابانيون في بيوت صغيرة وحارة، ومن أجل ذلك احتاجوا المكيفات، ولكن تكلفة الكهرباء كانت مرتفعة عليهم، فقامت الشركات بتطوير مكيفات تستهلك الكهرباء بكلفة أقل، وحين نافست تلك المكيفات في الأسواق العالمية أصبحت معروفة بتوفيرها للكهرباء إذا ما قورنت بالمكيفات المصنوعة في دول أخرى، والتي لم تتهيئ لها الظروف الجغرافية والاقتصادية لذلك كما حصل مع اليابانيين.

3- الصناعات المرتبطة والداعمة، والتي توفر الوقت والمال والجهد في حال وجودها بكميات كافية، مما يؤثر على التكلفة النهائية للسلعة المراد المنافسة بها، وعدم وجود صناعات مرتبطة وداعمة يُنتج -في الغالب- منتجات بإضافات أقل، أو بتكلفة أعلى نظرًا لضرورة استيرادها من الخارج.
4- استراتيجية وتنظيم الشركات، والتنافس بينها، مثلًا تمتاز الشركات الألمانية بإدارتها الهرمية، مما يجعل القرار بيد السلطة الأعلى، والعمل روتيني -ليس بالضرورة أن يكون الروتين سلبيًا- وهذا ساعد ألمانيا على إنتاج المنتجات الهندسية أو المنتجات المعقدة والثقيلة، أما في إيطاليا فالإدارات تمتاز بالمرونة أكثر، والتقبل العالي للتغيير، ووجود مساحة أكبر للابتكار، والتماهي الكبير في طبقات الهرم الوظيفي، مما يساعد تلك الشركات على صنع منتجات على درجة من التخصيص والرفاهية، وهي تلك المنتجات التي تمتاز بها إيطاليا، مثل؛ الأقمشة والمجوهرات والمفروشات. أما استراتيجيات التنافس بين الشركة فتصنعها السلطة، والتنافس ضروري لأنه يجعل الشركات تسعى لتقديم أفضل ما عندها لإرضاء العميل الذي تتوفر لديه خيارات عديدة، تجعله لا يقبل إلا بالأفضل، مما ينعكس في النهاية على المنتج.

إن الخصائص التي تكتسبها المنتجات -أو الخدمات- هي انعكاس مباشر للأنماط الإدارية المتبعة، والتي بدورها تُبنى على الثقافة المجتمعية، والثقافة المجتمعية تشكلت من عناصر مثل الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا، مثلًا؛ من العبث استخدام نموذج إداري مبني على إدارة الوقت في مجتمعات عالية الجماعية -مثل المجتمعات القبلية- لأن ثقافة العاملين والإدارة مبنية على الاهتمام بقيمة التعارف والضيافة أكثر من الاهتمام بقيمة الوقت، وعليه لا يمكن إنتاج سلع بكميات عالية في الظروف الطبيعية لهذه المجتمعات، وفي المجتمعات الجماعية أيضًا يتبع أغلب الأفراد -والذين ينتمي إليهم الموظفون والإدارات- فكرًا واحدًا، على عكس المجتمعات الفردية، التي ترتفع فيها حرية الرأي والتفكير، لذلك يعتبر تطبيق فكرة التخصيص -تعديل خصائص المنتج كما يرغب العميل- مثلًا فكرة غير صائبة في المجتمعات الجماعية، ومن الأفضل استبدالها بمنتجات واحدة لها نفس الخصائص.

إن النهضة الصناعية للمجتمعات تعتمد بشكل أساسي على الثقافة المجتمعية لأبنائها، ولا يُنظَر لتلك الثقافة من منظور تصنيفي -جيد وسيئ- كما تحاول بعض الأوراق البحثية تقديمها، بل من منظور أنها صفات موجودة، ويُبنى أي شيءٍ عليها، لذلك عند اتخاذ قرار التقدم الصناعي لا ينبغي تبني تجربة مجتمع آخر بحذافيرها، بل تعديل التجارب لتناسب معطياتنا الثقافية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.