شعار قسم مدونات

وفي الاختلاف رحمة!

BLOGS مجتمع

في أحد دروس العقيدة ذات مرة، سألني الشيخ عن المدرسة العقائدية التي أنتمي إليها، فوقفت حائراً بين البوح بذلك أم لا، فسرعان ما تذكرت حينها ما قرأته في مقدمة تفسير الكشاف للإمام الزمخشري -رحمه الله- حينما قال: "إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به …. وأكتمه فكتمانه لي أسلم"، وطال النقاش وطال بعض الخلاف ولا أجزم بأن الودّ طال، رغم قوله لي "أنّ الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية!".

مؤسف حقاً حال ثقافة مجتمعاتنا التي وصلنا إليها، لا ننظر إلى الحياة إلا بعين واحدة، نفصّل الناس بين اثنين لا ثالث لهما، بين عدو وصديق، فمن وافقنا في الأمر فهو ذاك الملائكي الذي لا يخطأ ومن خالفنا ولو في الوسيلة لتحقيق الغاية المشتركة! فهو العدو الذي لا يملك أي نسبة من الحق. لا نزن الأمور إلا بميزان واحد، ولا نرى من الألوان إلا الأبيض والأسود، تقوم علاقاتنا على مسائل خلافية اجتهادية لا ترقى بأن تكون فرعية أصلاً، وهل يصح أن تبنى العلاقة على ذلك؟! كالانحياز أو انتخاب جماعة ما، أو الحكم بتكفير شخص ما أو حتى الجهر بالبسملة في الصلاة أو مكان وضع اليديين على الصدرين، وما كل ذلك الا محل نظر واجتهاد!

رغم أننا أكثر ما نردد مقولة "أنّ الاختلاف الرأي لا يفسد للود قضية" إلا أننا بعيدون كثيراً عنها؛ لأننا في الحقيقة نفسد كل القضايا والعلاقات التي بيننا بالصراع والإقصاء والتعالي وعدم تقبل الاستماع للآخر

قد اختلف الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام! كما اختلف سليمان وداوود من قبل؛ "وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ"، وكذلك الملائكة كما روي في قصة الرجل الذي قتل مائة نفساً، فاختلفت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وأيضاً اختلف الصحابة رضي الله عنهم في حضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته في العديد من المواقف، ولعل أبرزها وأشهرها عندما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب قال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال فريق منهم: لا نصلي حتى نصل، وقال آخر بل نصلي، فعندما ذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعنف أيا منهم. وأنكر عليه الصلاة والسلام على الصحابة الذين زجروا الأعرابي الذي بال في المسجد وغضب على الذين أمروا المجنب الجريح أن يغتسل فمات فقال: قتلوه قتلهم الله!.. إلا سألوا إذ لم يعملوا فإنما شفاء العي السؤال. وذاك الإمام مالك -رحمه الله- رفض طلب الخليفة أبو جعفر المنصور بأن يحمل كتابه (الموطأ) على الناس، كتابه الذي ظلّ يُقرأ عليه ما يزيد على عشرين سنة، وهو يصححه وينقحه! معتبراً أن لكل زمان ومكان علماءه وآراءه الفقهية فرجع الخليفة عن موقفه بسبب هذا الموقف الرفيع من مالك في احترام رأي المخالف وإفساح المجال له.

رغم أنهم أفهم الخلق للكتاب والسنة وأكثرهم اخلاصاً إلا أنه تعددت طريقة الأفهام في الأخذ بظاهر النص والأحكام الثابتة وبين البحث عن مقصود النصّ. فلم يكن الشأن في ذلك دائماً بقدر ما كان في تنزيل الأمور على المحل وتحقيق القصد فيها ومراعاة فقه الأولويات. كل تلك الأخبار دلالات وعلامات واضحة فارقة على أن الاختلاف ليس كله شراً، وأنّه إن كان ولو بعضه شراً من الممكن تقليل شره. فلا نضيق بالاختلاف ولا يظن بعضنا بأنه بمقدوره رفع الخلاف بكثرة العلوم وصدق التدين ومحاولة جعل الناس على وجهة نظر واحدة. ولا تجزم بأن ما تظن أنك تفهمه من الشريعة أن يكون بالضرورة ما أرداه الله أو رسوله. فمدارك الرجال ليست وحياً والمدارس الفقهية أو الحركية ليست هي الاسلام حتى وإن كانت تنتسب أو تستسقى منه! وكما قال البوصيري: "قالت لي الناس ماذا الخلف قلت لهم: … كما تخالف موسى قبل والخضر".

فالاختلاف موجود، ولن يزول! وهو جزء لا يتجزأ من الطبيعة، فلولا النهار لما أحببنا عتمة الليل، ولولا الليل لما تمتعنا بالنور، ولولا حرارة الصيف لما عشقنا الربيع والشتاء. هكذا هي الحياة اختلاف وتنوع في إطار الوحدة والانسجام بين الأصل والفرع بين الأب والابن من الأفكار والنفوس والطباع والمدارك والغايات والوسائل والأشكال والألوان والألسنة وجميع الأشياء، ولذلك قال سبحانه وتعالى "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ". هو رحمة ونعمة كونية ماضية مستمرة في الحياة عامة وبين الناس خاصة وأن الاختلاف حتمي باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وسببه ينطوي على مقصد رباني حكيم بالغ في الحكمة والتعقيد تحت دائرة المباحات. ألا ترى أنّ الأشياء تصبح مملة رتيبة عديمة الفائدة حين تتماثل فلذلك قال سبحانه "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلكَ خَلَقَهُمْ".

فيجب علينا الاستسلام بأن الاختلاف في الرأي، وتتعدد النظر في تفسير المسائل والحكم عليها أمر طبيعي فطري، يتناسب مع طبيعة تفاوت الناس في المعرفة وفي فهم المسائل، ويقتضه كذلك اختلاف طبائعهم ونفسوهم، "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل …"، فمن الناس من يميل إلا الحزم والشدة ومنهم من يميل إلى اليسر والسماح. ولعلّ الانغلاق على لون واحد والنظر الضيق يغلب عليه السطحية والتعصب وضيف الأفق وسعة التقبل، وقد أشار الإمام الشاطبي -رحمه الله- في كتابه الموافقات بذلك فقال: "أن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورًا وإنكارًا لمذهب غير مذهبه، من غير اطلاع على مأخذه، فيورث ذلك حزازة في الاعتقاد في الأئمة، الذين أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في الدين، واضطلاعهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه".

رغم أننا أكثر ما نردد مقولة "أنّ الاختلاف الرأي لا يفسد للود قضية" إلا أننا بعيدون كثيراً عنها؛ لأننا في الحقيقة نفسد كل القضايا والعلاقات التي بيننا بالصراع والإقصاء والتعالي وعدم تقبل الاستماع للآخر. فالأولى بنا أن يكون اختلافاتنا يدار على نحو يجلي الحق ويلقح العقول لا أن يفرق القلوب، وكما قال أحد رواد الإصلاح الإمام محمد رشيد رضا -رحمه الله-: "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه" في ظل روابط الأخوة والودّ والتعاون والمصلحة العامة على الوصول لتحقيق ما هو أسمى، من غير أن يجر ذلك إلى التعصب والتشتت والفرقة وكسر الثوابت؛ "أفلا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.