شعار قسم مدونات

محطات حول مقتل البغدادي

blogs البغدادي

يثير مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ "داعش" أبي بكر البغدادي، والذي قامت به قوة خاصة أمريكية ليلة الأحد 27 أكتوبر/تشرين الأول 2019م في عملية استمرت حوالي 4 ساعات، وتمت في المنطقة التي كان يتواجد فيها البغدادي وهي قرية باريشا في إدلب، شمال غربي سوريا، على الحدود مع تركيا، وأن البغدادي قام بتفجير نفسه من خلال حزام ناسف كان يرتديه؛ يثير مقتل البغدادي وما حدث بعد الإعلان عنه من ضجة، وتداعيات هذا الحدث، الكثير من المحطات التي يجب التوقف عندها، من هذه المحطات التالي.

  

وكلُّ يدَّعي وصلاً بليلى

أول ما يلفت في هذا الحدث هو التسابق المحموم الذي قامت به دول كالعراق وتركيا وتنظيمات كقوات سوريا الديمقراطية "قسد" للتصريح بأن لها دوراً ما في هذه العملية؛ إذ سارع أفراد من المخابرات العراقية والتركية بالتصريح بعلمهم بالعملية، وأنهم كانت لهم أدوار في وقوعها وتسهيلها، وكذلك فعلت قيادات من قوات سوريا الديمقراطية.

 

وفيما التزم آخرون بالصمت كروسيا وسوريا وإيران حتى كتابة هذه المقالة؛ إلا أنه من الوارد جدًّا أن تكون لهم تصريحات مماثلة؛ خصوصًا وأن العملية تمت في المنطقة التي تسيطر عليها روسيا، وبالتالي سيكون للجانب الروسي بالتأكيد تصريح بدور روسيا في العملية، وكذلك يأتي تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في مؤتمره الذي عقده الأحد لإعلان اغتيال البغدادي بأنه تم التنسيق مع روسيا وأن روسيا أبلغت سوريا وإيران بأنه سيكون هناك تواجد لقوات أمريكية في تلك المنطقة، يأتي ذلك ليفتح مجالاً لكل من سوريا وإيران للإعراب عن مشاركتهما أيضاً بشكل ما في هذه العملية، وهو أمر متوقع جدًّا.

   

لست هنا أنكر أن يكون لكل هذه الأطراف دور في العلمية؛ لكن ما يلفتني هنا التساؤل: لِمَ هذا التسابق للإعلان بمجرد ورود الأخبار عن العملية؟ وفي هذا يحضرني هنا قول الشاعر:

وكلٌّ يدَّعي وصلاً بيلى … وليلى لا تُقِرُّ لهم وِصالا

ويبقى السؤال: بمن تُقِرُّ ليلى بالوِصالِ يا تُرى؟

 

هل هناك قيمة حقيقية لمقتل البغدادي؟

هل يمكن اعتبار أن تنظيم الدولة قد انتهى بمقتل زعيمه؟ خصوصًا بعد الهزائم المتتالية التي تعرض لها التنظيم وسقوط آخر معاقله في سوريا وهي مدينة الباغوث الواقعة جنوب شرق سوريا وذلك في شهر مارس/آذار الماضي؟ الشواهد السابقة وطبيعة تنظيم الدولة وحالة البغدادي نفسه كل ذلك يجيب بـ: لا!

  

  

الشواهد السابقة تشير إلى أن مقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، والذي تم اغتياله في مايو/أيار 2011م، لم يؤدِّ إلى انتهاء تنظيم القاعدة؛ فالتنظيم ما زال متواجداً في عدة بلاد، وما زالت له أدوار يؤديها؛ بصرف النظر عن مدى تأثيرها أو قوتها.. النقطة هنا أن التنظيم لم ينتهِ بنهاية زعيمه.

  

كما أن طبيعة التنظيم المعتمد على الهيكل الخلوي وليس الشكل الهرمي يجعل القضاء على التنظيم بقتل قائده أمراً غير قائم؛ فالتنظيم مبني على خلايا صغيرة تدير نفسها بنفسها، وتقوم بالتنسيق مع خلايا أخرى شبيهة؛ وبالتالي فإن سقوط أي رأس أو حتى خلية كاملة لا يؤدي بحال إلى سقوط الخلايا الأخرى، لذا لن يسقط التنظيم بسقوط رأسه.

   

حالة البغدادي نفسه مؤشر آخر على عدم سقوط التنظيم؛ فهو في حالة صحية صعبة لدرجة أن نقل مقربون عنه أنه في وقت من الأوقات لم يكن يستطيع ارتداء الحزام الناسف لثقل وزنه عليه، وأنه اكتفى بالاحتفاظ بحبة يبتلعها لتنهي حياته إن احتاج لفعل ذلك، هذه الحالة الصحية بالإضافة إلى تشرذم التنظيم تخبرنا أن البغدادي لا يملك السيطرة المطلقة على التنظيم، وأنه ربما مجرد رمز لا أكثر؛ ما يعني عدم زوال التنظيم بزواله، بالتأكيد مقتل البغدادي له تأثيره النفسي والإعلامي على التنظيم، وغالباً ما تم ضبطه لديه من ملفات ومعلومات سيكون له دوره في معرفة أماكن تواجد التنظيم؛ لكن كل ذلك لا يعني موت التنظيم بموت قائده وزعيمه.

  

طوق نجاة ترمب

الجميع يعلم أن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب منذ تولى الحكم في يناير/كانون الثاني 2017م لم يهنأ بكرسي الحكم؛ فهو باستمرار في دوامة من الاتهامات ومحاولات العزل، بداية من تآمره مع الروس في انتخابات 2016م وتقرير مولر، ومروراً بالتهرب الضريبي ومعاداة غالبية الإعلام له، وصولاً إلى مطالبة النواب الديمقراطيين بعزله بعد اتهامه بالضغط على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لفتح تحقيق حول مشاريع لابن منافسه المحتمل في الانتخابات الرئاسية القادمة الديمقراطي جو بايدن.

 

وفي كل ما سبق كان النواب الجمهوريون ذوو الأغلبية في الكونغرس يساندون ترمب ضد جميع ما سبق؛ بيد أن قرار ترمب انسحاب القوات الأمريكية من سوريا كان ثالثة الأثافي بالنسبة له؛ إذ عارض هذا القرار عدد كبير من النواب الجمهوريين قبل معارضة الديمقراطيين له، مما أثار تساؤلات حول استمرار دعم الجمهوريين له ضد محاولات عزله، أو أنهم سيلقون بالمنشفة أخيراً ويتركونه لمصيره رغبة في المحافظة على فرصة فوز الجمهوريين في الانتخابات القادمة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020م نظراً لأن كل يوم يمر في وجود ترمب يقلل من فرصهم في الفوز بتلك الانتخابات.

 

وفق كل ما سبق فإن عملية التخلص من البغدادي قد تكون طوق نجاة لترامب للحفاظ على دعم حزبه الجمهوري أولاً؛ ثم انتخاب الشعب الأمريكي له في الانتخابات الرئاسية القادمة، هذا ما ستُنبئ به الأيام القادمة.

    

    

هل مشاركة "قسد" طامة عليها؟

لا شك أن مقتل البغدادي لن ينهي تنظيم الدولة نهائيًّا كما أشرنا سابقاً؛ لكنه مؤثر في التنظيم ولا شك، ويزيد من ضعفه وتراجعه المستمر، وهذا ما يجعلنا نطرح تساؤلاً محوريًّا: هل يعني مقتل البغدادي انتهاء الحاجة إلى قوات سوريا الديمقراطية "قسد"؟

 

إن الولايات المتحدة هي التي دعمت "قسد" ورعتها وسلَّحتها، وهي التي وقفت في وجه رغبة تركيا في الخلاص من ركن ركين من مكوناتها وهي وحدات حماية الشعب الكردية ومن خلفها حزب العمال الكردستاني، وكان الدعم الأمريكي والتجهيز العسكري لـ"قسد" بهدف قتال تنظيم الدولة ومنعه من السيطرة على آبار النفط في تلك المنطقة.

 

وبالرغم من مبادرة "قسد" بالإعلان عن مشاركتها في العملية؛ إلا أن انتهاء تنظيم الدولة في تلك المنطقة ثم مقتل البغدادي قد يعني انتهاء دور "قسد"، وبالتالي توقف الدعم الأمريكي لها، وتركها بين براثن الإنهاء التركي عليهم أو تسليم مناطقها وقواتها للنظام السوري وهو إنهاء لها من نوع آخر؛ فتكون مساعدتها في مقتل البغدادي طامة عليها بدل أن تكون في مصلحتها.

 

ما الوجه الجديد؟

كما لم يكن موت أسامة بن لادن دليلاً على موت تنظيم القاعدة الذي استثمرته المخابرات الأمريكية والدولية أيما استثمار؛ إلا أن موت ابن لادن كان مؤذِناً بظهور وجه جديد لـ"الإرهابيين الإسلاميين" إن جاز التعبير، والذي تمثل في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" ثم أصبح اسمه تنظيم الدولة الإسلامية، وهو -كما تشير دلائل عديدة وشبه مؤكدة- صنيعة أخرى للمخابرات الأمريكية والدولية تم دعمه وإظهاره وإشهاره لتحقيق مآرب من ورائه.

  

والآن وقد أوشك تنظيم الدولة على استنفاد الأغراض المطلوبة منه، والأدوار التي كان عليه أن يؤديها؛ فهل يؤذِن مقتل البغدادي بقيام المخابرات الأمريكية والدولية بإظهار وجه جديد لـ"الإرهابيين الإسلاميين" لتأدية أدوار جديدة تخدم هذه المخابرات ودولها، ولتستمر في مص خيرات بلادنا ونهب ثرواتها؟ هذا ما أتوقعه.. لكن أين؟ وكيف؟ وما المسمى الجديد؟ هذا ما ستكشفه الأيام.

 

هذه محطات أثارها مقتل البغدادي.. وتداعيات تفوق بكثير موت رمز تنظيم الدولة، بل تتجاوز تنظيمه كله؛ لما لها من آثار على أوطاننا، ولما تحمله من مؤشرات تؤثر على مستقبل بلادنا.. أسأل الهم السلامة والعافية لبلادنا جميعها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.