شعار قسم مدونات

الاقتصاد العالمي.. هل انتهى عهد الهيمنة؟

blogs اقتصاد

عدد من الأستاذة والباحثين في كبرى كليات العلوم الإدارية (business Schools) في أمريكا قاموا بإصدار دراسة تحليلية لواقع الاقتصاد الأمريكي. خلصت دراستهم إلى أن العام ٢٠١٩ شهد تراجعا ملحوظا في نمو الاقتصاد الأمريكي؛ وأن العقوبات التجارية التي أتخذها الرئيس ترامب ضد إيران والصين (وتلك التي لوح بها في وقت ما ضد تركيا، والتي تعرضت لها الهند جراء علاقاتها التجارية مع إيران) أثرت سلبا على الاقتصاد الأمريكي. ختمت الدراسة برسالة قوية للرئيس ترامب "إن شفرة النجاح في عالم اليومهي التعاون بين الأمم؛ فحاجتنا لاستثمارات وموارد الدول لا تقل عن حاجتهم لمنتجاتنا وتقنياتنا".

هذه الروح الرافض لسياسة الرئيس لا تعد غريبة على المؤسسة الأكاديمية الأمريكية؛ فقد ظلت تحتفظ باستقلالية مطلقة وتتمتع بمنهج مستقل في التفكير والتقييم. حتى أن مؤسسة الرئاسة (ومؤسسات الدولة الأخرى) ظلت تنظر بإيجابية لهذه الاستقلالية؛ فهيتوفر مصدرا مستقلا للمعلومة ووسيلة فعالة لقياس الرأي وتلمس الموقف المخالف. بل إن المؤسسات الحكومية تقوم بتمويل هذه الدراسات والبحوث الأكاديمية وتستهدي وتسترشد بها، وإن جاءت مخالفة ورافضة لسياسات الرئيس.

تشير التقارير أن الأداء الفصلي لعدد من كبريات الشركات الأمريكية شهد تراجعا. فمبيعات الشركات الأمريكية مثل ستاربكس ونايكي وحتى آبل شهدت تراجعا كبيرا في السوق الصيني بسبب النظرة السلبية للمستهلك الصيني

مثل سوق العقار الأمريكي أحد الوجهات المفضلة لدى صغار المستثمرين الصينيين. فالانخفاض الحاد في أسعار الوحدات السكنية في أعقاب أزمة ٢٠٠٨ مثل فرصة ذهبية ودفع مئات الآلاف منهم لاستثمار مدخراتهم في شراء تلك العقارات منخفضة الثمن، مراهنين على التوقعات متوسطة وبعيدة الأمد والتي أشارت حينها أن الأسعار لابد لها من الصعود (وقد كان). منذ ذلك التاريخ نشطت حركة شراء العقار من قبل الصينيين في مختلف المدن الأمريكية (لوس أنجلس؛ هيوستن، سان فرانسيسكو، أوستن، دالاس، فينيكس، شيكاغو، لاس فيغاس، الخ…)؛ بل إن هذه الشهية المفتوحة ساهمت في زيادة الأسعار السنوية Annual Appreciation Rate، الشيء الذي سرع من وتيرة تعافي الاقتصاد الأمريكي.

بيد أن العام ٢٠١٩ شهد تدهورا ملحوظا في هذه النسبة، للحد الذي جعل الأسعار شبه ثابتة مقارنة بالعام السابق في بعض المدن مثل هيوستن. وبحسب الدراسة فإن قلق المستثمر الصيني من مستقبل العلاقات التجارية بين الصين وأمريكا (أثر العقوبات التجارية التي بدأت إدارة ترامب تلوح بها منذ العام ٢٠١٨) أفقده شهية الاستثمار في سوق العقار. الأمر الذي أثر على معادلة العرض والطلب Supply and Demand ونتج عن ذلك تباطؤ في الزيادة السنوية للأسعار. أما كبار المستثمرين الصينيين (بما فيهم الحكومة الصينية) فبصمتهم في الاقتصاد الأمريكي حاضرة أيضا. فهم يهيمنون عن سوق السندات الأمريكية التي يصدرها الاحتياطي الفدرالي. فإذا كانت روسيا قد سيلت جزء مقدرا من احتياطاتها من العملة وشهادات الاستثمار الامريكية؛ فإن الصين ما تزال تحتفظ بمبالغ ضخمة.

قمت الأسبوع بزيارة جامعة كارنيجي ميلون في ولاية بنسلفانيا. وجامعة كارنيجي -لمن لا يعرفها- هي إحدى الجامعات الخاصة العريقة في الشرق الأمريكي. ورغم أن القبول لها متاح للجميع؛ إلا أن رسومها الدراسية الباهظة تجعلها شبه محتكرة على أبناء النخب الثرية. إحدى الظواهر التي تسترعي انتباه الزائر لمقر الجامعة في بيتسبرغ؛ هي الأعداد المهولة للطلاب الأجانب؛ حتى أنك لا تكاد تلحظ وجودا للطلاب الأمريكيين (البيض، الأفارقة، وحتى الجيل الثاني من أبناء المهاجرين). بعد تطوافي على ساحات الجامعة وقاعات الدرس، والمراكز التجارية وحتى ملاعب كرة القدم؛ انتابني إحساس أنني في إحدى الجامعات الصينية (مع وجود ملحوظ للطلاب الهنود وعدد قليل من أبناء الخليج الذين لا تمثل لهم الرسوم عائقا يذكر). غني عن الذكر أن هؤلاء الطلاب الأجانب لا يحركون اقتصاد الجامعة فقط بمصاريف الدراسة الباهظة التي يدفعونها؛ بل إنهم يوفرون فرص عمل للآلاف من سكان مدينة بيتسبرغ وما جاورها من المدن.

دعونا الآن ننظر إلى الجانب الآخر من المعادلة؛ تشير التقارير أن الأداء الفصلي لعدد من كبريات الشركات الأمريكية شهد تراجعا. فمبيعات الشركات الأمريكية مثل ستاربكس ونايكي وحتى آبل شهدت تراجعا كبيرا في السوق الصيني بسبب النظرة السلبية للمستهلك الصيني. وغني عن القول أن السوق الصيني يشكل أهم الأسواق لهذه الشركات؛ وذلك للشعبية الكبيرة لمنتجاتها فيالصين. على صعيد آخر، مني منتجوا فول الصويا في أمريكا بخسائر فادحة هذا العام؛ وذلك لأن أهم أسواقهم (الصين) فرضت عليهم رسومًا إضافية مما أفقدهم التنافسية.

عند الربط بين الدراسة التي افتتحنا بها المقال، والمشاهدات التي استعرضناها يمكن التوصل إلى نفس النتيجة "الاقتصاد الأمريكي لم يعد مستقلًا عن نظيره الصيني". إن الهيمنة المطلقة التي كانت تتيح للاقتصاد الأمريكي فرض العقوبات على الدول والمؤسسات لم تعد موجودة على أرض الواقع بنمطها القديم. لا شك أن القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية ما زالت تتيح لإدارة الرئيس ترامب معاقبة الصين وفرض عقوبات على غيرها من الدول؛ لكن الجانب الآخر من الحقيقة هو أن الضرر الذي سيلحق بالاقتصاد الأمريكي جراء هذه العقوبات لن يقل كثيرا عن الأضرار التي تلحق باقتصادات الدول الخاضعة للعقوبات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.