شعار قسم مدونات

الدراسات العليا.. علمٌ يُنتَفع به أم شهادات فخرية؟

blogs مكتبة

لا شكّ أنّ لطلبِ العلم فضلٌ أعظم فيما نحنُ عليه اليوم من تقدّمٍ تقنيّ في مختلف المجالات كالطب والاقتصاد والاتصالات والتطوّر المعماريّ ووسائل النقل والصناعات المختلفة والتي سهّلت الحياة للإنسان المُعاصر بشكلٍ ملموس؛ فالثّورات العلميّة والصناعيّة والتكنولوجيّة المتتالية على مرِّ العُقود كانت كفيلةً بإحداثِ تحوّلٍ جذريّ على نمط الحياة وشكّلتْ بذرةَ الانتقال من مُجتمعاتٍ بدائيّة إلى مُجتمعات حَضَريّة تستميلُها أخبار المعرفة والابتكار.

ولعلّ أبرزَ مرتكزات العصر الحديث الذي تتسابق فيه الدُّول المتقدّمة هو البحث العلميّ القائم على استثمار الطريقة العلميّة التحليليّة في النظّر إلى الظواهر والنظريات والدراسات السابقة ومحاولة إثبات صحتها أو دحضها أو توضيح اقترانها بعواملَ أخرى، وتوظيفها في تقديم معلومات وحقائق جديدة تساهم في اقتراح توصيات أو حلول لمشكلة البحث الأساسية، ممّا يضفي قيمةً إلى العملية التراكمية للعلوم وقد يخلق فُرَصاً وتوجّهاتٍ جديدة في مجال التخصُّص.

وقد ساهمَ التعليم العالي في إثراء الأبحاث العلميّة كما الأدبيّة وصقْلِ أساليبها ومناهجها وتطوير العقليّة الإبداعيّة للقائمين عليها. ونجدُ اليوم إقبالاً ملحوظاً على التسجيل في حقول الدراسات العليا كالماجستير والدكتوراه من فئات عُمْريّة مختلفة من كلا الجنسين، وتتعدّد الدوافع والأسباب التي تجعلُ الشخص مُقبلاً على تحمّلِ العبء الماديّ والنفسيّ والجسديّ لخطوةٍ كهذه، وفي مقالي هذا أودُّ أن أناقش بعض هذه الدوافع وما يمكنُ أن تُفضي إليه من نتائج إيجابيّة وسلبيّة على مُقتضيات التعليم العالي والمسؤولية المِهَنيّة:

1. الفُضول والشّغف وحبّ التعلُّم:
قد يسعى البعض للحصول على قبول ماجستير أو دكتوراه في جامعة أجنبية لأنّها تُعتَبر الطريقة الأسهل والأسرع في الحصول على تأشيرة لدخول البلد. وقد لا يكون الشخص مُهتمّاً بالدّراسة وإنّما يعدُّها الخطوةَ الأولى لتحقيق حلم الهجرة

قد يكون أساس التوجُّه نحو الدراسات العليا هو الرغبة في البحث في مسألة أو ظاهرة معيّنة تستهوي فكرَ الباحث وتستثيرُ فُضوله وشغفه، وتحفّزه على طرح الأسئلة التحليلية وتُجرِّدُه من فكرةِ تقبّلِ الأمور على ما هي عليه دون عناء البحث فيغدو متعمّقاً في التجربة والفهم والاستنباط؛ تدفعه رغبةٌ داخليّةٌ جامحة في التوصّل إلى حلول أو استنتاجات فيما يخصُّ مشكلة معيّنة أو تجعله يبتكر أساليباً أو طُرقاً جديدة في معالجتها، أو تُساهم في تغيير الفهم العام لموضوع ما في مجال تخصّصه الدقيق. وهنا تبرزُ فضيلة الاستزادة من بُحور العلم ليس فقط في ارتقاء العقول وصقل المهارات والمعرفة لطلبة الدراسات العليا، وإنّما بما ينتج عنه من إنجازات عظيمة محلّية أو عالمية في خدمة البشريّة وبناء الحضارات وتنمية المجتمعات وخلق الفُرص ومحاذاة التطور في شتّى الميادين.

2. المكانة الاجتماعية والنّفع الماديّ:

قد يسعى بعض الأفراد للحصول على الدرجة العلميّة العليا في سبيل نيل مكانةٍ اجتماعية مرموقة وتحقيق بعض المكاسب الماديّة من خلال الحصول على وظيفة في إحدى الجامعات أو المؤسسات الميدانية بحسب مجاله وتخصصه، وليس في هذا عيباً فهو استثمار لطاقات الإنسان وقدراته فيما يعود بالنفع عليه وعلى غيره، وهو من سُبُل التنمية البشرية وتحقيق الذّات ومعيار من معايير النجاح تتّفقُ عليه ثقافات المجتمعات العربية والغربية. ولا يتنافى هذا الدافع مع متطلبات التعليم العالي بل يُحقّقها ضِمناً ومضموناً، فلا تقوم كليّة جامعية دون عددٍ مُكتمل النِّصاب من أعضاء هيئة التدريس ذوي المؤهِّلات والخبرات المتعددة. وإنّ المقصود بالنفع الماديّ هنا هو تحسين ظروف المعيشة وليس الثّراء، ففي زمن التقدّم التكنولوجيّ يمكنك أن تجني أموالاً طائلة من قناة يوتيوب بمحتوى ساذج يتم تداوله في غضون ساعات تُغنيكَ عن سهر الليالي للحصول على درجةٍ علميّة وقد تفوقُ ما يمكن أن تحصّله في عدّةِ سنوات كمُحاضر في جامعة مرموقة!

3. حرف الدّال:

وهنا نبدأ بذكرِ بعض العيوب المقترنة بالدوافع الشخصية في نيل درجة الدكتوراه، إذ يتشبّث البعض بغاية الحصول على حرف الدّال قبل الاسم لإضفاء قيمةٍ معنوية واستجداء عُلِيّ المقام لأنفسهم بأيّ طريقةٍ ممكنة و دونَ الإلمام المعرفيّ الجسيم الذي يتطلّبه منحُ الدرجةِ العلمية. أي أنّ رنين كلمة "دكتور أو دكتورة" في آذانهم هو ما يحرّك الرغبة في الحصول على الدرجة العلمية. وإنّ خطورة ذلك تكمن فيما قد تُسَوِّل لهم أنفُسُهم إنْ لم يبذلوا جهوداً حقيقية لاستحقاق الدرجة العلمية، فنرى محتوىً ركيك لرسالة الطالب لا يرقى لأن يكون بحث دكتوراه ولكنّه حصل عليها على أيّ حال فمعايير الجامعات في منح الدرجات العلمية متفاوتة وقد تكون "مطّاطية" في بعض الأحيان، أو قد يتعدّى ذلك حدودَ الضمير والأمانة العلمية فيقوم الطالب بشِراء رسالة دكتوراه أعدَّها له شخص منعدم الضمير أيضاً وكلّ هذا في سبيل الحصول على حرف الدّال وإشباع النفس بإنجاز وهمي يتبدّد كلّياً مُظهِراً ضعفَه عند أول محاضرة يُقدِّمُها أو سؤال يتعرّض له من قِبَل شخصٍ مُطّلع.

4. بوّابة للهجرة:

قد يسعى البعض للحصول على قبول ماجستير أو دكتوراه في جامعة أجنبية لأنّها تُعتَبر الطريقة الأسهل والأسرع في الحصول على تأشيرة لدخول البلد. وقد لا يكون الشخص مُهتمّاً بالدّراسة وإنّما يعدُّها الخطوةَ الأولى لتحقيق حلم الهجرة هرباً من واقعِ بلدِه الأصليّ الذي غدا مقبرة لطموح الشباب بأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية التي يُرثى لها. وفي حالاتٍ أخرى قد يكون الشخص شغُوفاً بدراسةِ مجاله فيظهرُ ذلك جليّاً في فِكرِه الرياديّ ويُتَوَّجُ إنجازُه بمنحهِ الدرجة العلمية التي غادر وطنَه سعياً لأجلها، فتبدأ المؤسسات المهتمّة بأبحاثه في الدول الأجنبية باستقطابه باعتباره كفاءة عِلميّة مشهودٌ لها فلا يجدر بهم التفريط به، في حين تُقيّضُه بلدُه الأمّ بقيودٍ نمطيّة تحاصرُ الإبداع وتهاجمُ مَن يحاولون التفكير خارج الصُّندوق، فيفضِّل فرصةَ الهجرة المُثمِّنة لجهودِه على العودة لبلدِه، وهذا أمرٌ لا يمكن تجاهُله في البلدان العربية التي تخسر سنوياً عُقولاً فذّة كانت لَتُثري التعليم العالي ومؤسسات أخرى فيها لو أحسنَتْ جذْبَها وتقديرَها.

5. حلم الوصول إلى السلطة:

قد يرى البعض أنّ في الحصول على درجاتٍ علميّة عُليا ومن ثمَّ ترقيات إداريّة دربٌ واعد للوصول إلى رُتَب ومراكز مُهمّة على مستوى الجامعات أو على مستوى الدّولة، وهذا حقيقيّ ومنطقيّ إلى حدٍّ ما فذوي المؤهّلات العلمية والكفاءات وأرباب الخبرة مُخوّلون وجديرون بارتقاء المناصب الهامّة التي تُفوِّض إليهم مسؤوليات وواجبات إدارية وماليّة وتنفيذية في سبيل تحقيق رسالة المؤسسة التي يقومون عليها، ومن شأن ذلك النهوض بمستوى الخدمات المُقدَّمة إذا ترافقتْ مصداقيةُ الأمانة العلميّة والإدارية مع الجُهود المبذولة. وفي النقيض، تنحدرُ القيم الأخلاقية حين تصبحُ الغاية من الترقية الأكاديمية مجرّد حبّ للوصول بأيّ طريقة ممكنة يتخلّلها نظرة مادّية بَحْتة، فنرى بعض الأكاديميّين يخوضُ حربَ منافسة طاحِنة مع زملائِهِ في سبيل إثبات الأفضليّة للحصول على الترقية، والتي بدورها تحوّلُ الهدف من إجراء دراسات علمية رصينة ومُلهِمة للمجال البحثي إلى مجرّد أرقام كمّية تزيد من عدد صفحات السيرة الذاتية وعدد الأوراق المنشورة للباحث دون قيمة فعلية تُذكَر للأبحاث.

وتكمنُ الخطورة هنا في أنّه بإمكان الباحث المُتمرِّس أن يكتبَ بحثاً كاملاً بنتائج مثيرة للاهتمام وتحليل إحصائي مُنمَّق ومُشاركين وهميّين أو حتى بيانات رديئة، ويخرج بتوصيات بناءً على انحيازه الشخصيّ وبما يخدم مصالحه أو يحقّق له منفعة ماديّة أو معنوية. وقد أصبحنا نرى كثيراً من المُفاخرة بمثل هذه الإنجازات الزائفة والشكليّة عبر منصّات التواصل الاجتماعي والتي تجعلُ أكاديميين أكفّاء وباحثين قديرين يشعرون بالخيبة في خوضِهم مُقارنات غير متساوية وغير عادلة ولا أخلاقية. والحقُّ يقال، هناك فجوات وتجاوزات مثيرة للتساؤلات أحياناً بين المؤهّل العلمي والكفاءة الفعليّة ولكن يتمّ التكتّم عليها وتجاهُلِها عندما تتحكّم مبادئ الانتهازيّة والمحسوبيّة وثمَرة العلاقات الناجحة بتحديد منَ يستحقُّ الترقية.

من المؤسف حقّاً أن تغدو الغاية من الدّراسات العليا هي مجرّد وسيلة لتحقيق الذات بطريقة مُخِلّة بأخلاقيات البحث والأمانة العلمية من أجل الحصول على شهادات وترقيات ما تلبث إلّا أنْ تبقى مجموعة أوراق مُغْبَرَّة على الرفوف أو لوحات زينة للجدران، في حين نلتمسُ الرسالة السامية والصادقة في دَوْر بعض الكفاءات العِلمية الذين تُرفع لهم القُبّعات في سعيهم المستمرّ إلى توظيف البحث العلميّ في تنمية المجتمعات واستحداث التغييرات الإيجابية على أرض الواقع فيما يعود بالنفع وشرف الإنجاز العِلمي على منظومة التعليم العالي والوطن ككُلّ.

وفي الختام وجبَ التنويه إلى أنّ مقالي هذا لا يستهدف أي شخصيّات أكاديمية أو فئات مسؤولة، وإنّما سعى إلى ذكر بعض الدوافع الشخصية التي قد تُوَلِّد الرغبة في نيل الشهادات العليا، كما انتقدَ بعض السلوكيّات المذمومة التي تفشّت في الأوساط الأكاديمية حتى ضاعت الأمانة العلميّة وحلّت محلّها انتهازيّةُ الفُرَص وغياب الأخلاقيّات المِهَنيّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.