شعار قسم مدونات

كيف يتَّفق إخوة الحراك في الجزائر؟

blogs الجزائر

نُشرت على منصة التدوين الحر هذه مدونة بعنوان "لماذا اختلفَ إخوةُ الحراك في الجزائر؟" تناولت انقسام شباب الحراك بين مؤيد ومعارض بعد إعلان 12 ديسمبر تاريخا للإنتخابات الرئاسية إلا أن قارئ سطورها قد يلمس فيها -كغيرها من الكثير من الكتابات- تحيزاً فيه نوع من تهميش رأي المؤيدين لهذه الانتخابات وتجاهلاً لدوافعهم وتركيزاً على بيان حجج معارضيها، لكن لابد من موضوعية في الطرح وإنصاف قد لا يؤديان الى توافق الرؤية ولكن على الأقل رأب الصدع وتجنب انزلاق الاستقطاب الحاد إلى استقطاب مزمن تهدم فيه جسور الحوار وتتقوقع فيه كل رؤية على نفسها، ولعل الرد على التحفظات على استمرار الحراك أولى من بيان دوافع رفض الانتخابات.

الحقيقة أن الانقسام في الأهداف كان موجودا منذ بداية الحراك إلا أن النظام حينها كان يتميز بفقدان الشرعية وسيطرة رجال المال الفاسد عليه وتغلغل الاستئصاليين فيه مما وحّد وجَمَع أطياف المجتمع ضده في كتلة واحدة من رافضي اللاشرعية ومناهضي الفساد والمنافحين عن ثوابت الأمة. ولكن هذا الانقسام طفى على السطح لما تدخلت سلطة جديدة قد لا تتمتع بالشرعية كذلك لكنها ترفع شعار محاربة الاستئصال وحليفه من مال فاسد.

تصحر الساحة السياسية لا يبرر القفز على الأسباب الحقيقة للانسداد الحاصل وانتهاج سياسة الهروب إلى الأمام في انتخابات مطعون في نزاهتها حتى قبل أن تقام، قد يقود فرضها بالقوة إلى تصادم مباشر في الشارع

يرى الكثيرون أن البديل عن الانتخابات المستعجلة هو مرحلة يتخللها حوار حقيقي تتخلى فيها سلطة الواقع عن قبضتها الحديدية لصالح النخب السياسية من أجل الوصول إلى أرضية مشتركة وضمانات حقيقية للتنافس النزيه لكن المعترضين على هذا المسلك والمطمئنين إلى خيارات القيادة العسكرية يبررون موقفهم بغياب النخب الموثوقة خاصة بعد التصحير الممنهج للساحة السياسية خلال العقدين الأخيرين حتى أصبح قطاع واسع من الشعب يصنف النخب السياسية جميعها بين إما متورطة أو متواطئة مع نظام بوتفليفة، وتزامن ذلك مع الرفض القاطع لأي تمثيل نخبوي للحراك قد يكون طرفا في أي حوار مفترض، وأيضا رفض المؤسسة العسكرية أي دور تلعبه في حوار الساسة مما يرسم أفقا منغلقا لبدائل الانتخابات.

وفي حين يبرز رفض طرفٍ لإنتخابات ديسمبر بحجة أنها لا تؤدي إلى تنصيب رئيس يتمتع بالشرعية حيث تعتبر الأخيرة عند هذا الطرف الأولوية القصوى، يظهر استنادُ الطرف الآخر لسلطة الواقع الحالية التي يثق في حملتها لمحاربة الفساد ودعواها حماية ثوابت الأمة ضد التيار الاستئصالي بتبنيها شعار النوفمبرية (الوطنية) وكذلك شعار الباديسية (الإسلام المعتدل) الذي رفعه بعض المحسوبين على هذه السلطة من نخب، ولعل إثارة قضية الكنائس غير المرخصة لأقلية مجهرية في هذا التوقيت بالذات خير دليل على نية الاستثمار في هذا الإتجاه، فلسان حال هؤلاء أن اللجوء لاستحقاق انتخابي قد لا يتسم بالضمانات الكافية أولى من إطالة عمر حراك يخلق وضعا سياسيا هلاميا يقود إلى المجهول وقد يمنح فرصة للتيار الاستئصالي وخلفه الترسانة الغربية الناعمة للسيطرة على مفاصل الحكم ومواصلة العمل على مسخ هوية المجموعة الوطنية وهذا تخوف مبرر له حججه القوية. فالقضية قضية اختلاف في الأولويات بين نشطاء الحراك رغم الاتفاق في الغاية المتمثلة في قيام سلطة شرعية تمثل الهوية الحقيقية للمجتمع.

ليس من الحكمة التخلي عن الشرعية بحجة حماية القيم لأن الشرعية المترتبة عن انتخابات نزيهة هي صمام أمان الثوابت ولنا في التاريخ عبرة انطلاقا من الانتخابات التشريعية الجزائرية سنة 1991 مرورا بالانتخابات المصرية التشريعية والرئاسية بين عامي 2011 و 2012 ووصولا الى الاستحقاقات الانتخابية التونسية المتتالية. ولذا أي تنازل عن الشرعية مهما كانت مبرراته هو التهديد الحقيقي للثوابت والقيم والعقد الاجتماعي، وإن لم تظهر تبعات هذا التهديد على المدى القريب فحتما ستبرز على المديين المتوسط أو البعيد.

تاريخ الشعوب يعلمها ضرورة التمسك بالشرعية وحمايتها حتى بعد الانتخابات كي لا يتم الانقلاب عليها كما تعودنا فكيف يعقل التنازل عنها ولو جزئيا قبل الانتخابات! وأي منطق هذا الذي تحتاج فيه الأغلبية الغالبة إلى نظام سلطوي بقبضة مطلقة يحمي بها قيمها ومبادئها! أما ثلة التغريبيين فقد كانت دوما جزءا من المشهد وعين العقل أن تُزاحم في الشارع وفي النضال السياسي وأن لا يُفسح لها المجال لتعوض الفراغ وتظهر في صورة البطولة المزيفة. محاربة الفساد ركن أساسي في بناء دولة قوية وعادلة، لكن الإصلاحات في كافة المجالات من عدالة وتنمية ورعاية اجتماعية وغيرها لا يمكن أن تكون مجرد مهدئات ظرفية لشراء السِّلم الاجتماعي سرعان ما تتلاشى في غياب ضغط الشارع بل يجب أن تكون نتيجة لحلول جذرية يجسدها برنامج صلب ومتكامل يحرر الكفاءات ويحترم القانون، تحمله سلطة شرعية منتخبة تعبر عن تطلعات الشعب ورؤيته المنبعثة من أصالة انتماءه.

تصحر الساحة السياسية لا يبرر القفز على الأسباب الحقيقة للانسداد الحاصل وانتهاج سياسة الهروب إلى الأمام في انتخابات مطعون في نزاهتها حتى قبل أن تقام، قد يقود فرضها بالقوة إلى تصادم مباشر في الشارع لا تحمد عقباه (كما تم الغاءها بالقوة يوما)، بل يكون الحل في انتهاج التوافق بين جميع الأطراف بلا وصاية وبدون تخوين وبتقديم التنازلات تجنبا لفخ الاستقطاب الذي يشحن الشارع بعضه ضد بعض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.