شعار قسم مدونات

صفقات زواج تحت شعار "التضحية"

blogs زواج

دخلت قاعة الحفلات وكلي فضول لرؤية العروس، وهي بجانب عريسها الشاب الرزين الذي لطالما حدثتني عنه.. وإذا بي أصطدم بصورة مناقضة جدا، تقف فيها العروس كتمثال خشبي ممسكة بيد رسمت عليها تجاعيد العمر المتآكل خطوطها، لكنها يد نادرا ما تكون فارغة، فهي مشغولة بعد النقود وإمضاء الشيكات، وتضخيم الأرصدة المالية. وكان من الطبيعي جدا أن تنزعج، بعدما أكدت لها بأن هذا الصنف من الزواج محاط بالكثير من المخاوف، لأن فشله يجلب عواقب مأساوية، كما أن عدم الشعور بالرغبة تجاه الطرف الآخر، يجبرها على مشاركة إنسان الحياة الزوجية دون أدنى شعور تجاهه، وبالرغم من أنني أبديت انزعاجي من اختيارها المبني على أسس هشة، إلا أنها أجابتني بطريقة محنكة وبكل بساطة: "لم تعد الأفلام الهندية تنطوي علي، آن الآوان لتقديم المصلحة على أي شيء آخر…".

ثم استرسلت في تبريراتها وهي تتساءل بألم: "كيف لي أن أختاره شابا بعد أن توفي والدي، تاركا وراءه خمسة أولاد لا معيل لهم؟ ضحى أكبرهم بنفسه وتزوج بسبب ظروفنا المادية وعدم وجود فرصة عمل مناسبة، من أرملة مغتربة تبلغ من العمر ستين عاماً لكي تكفله مادياً، ولكنها للأسف لم تلتزم بوعدها له وعاشت برفقته سنة ونصف، تفننت في ذله وقهره ثم ألقته فى شوارع "نيس" الفرنسية، واتهمته بسرقتها، ليدخل السجن لمدة ستة أشهر ويضيع مستقبله. لا أريد لأمي أن تستمر في العمل في المزارع والحقول.. يداها المتشققتان وظهرها المنحني ألما وكبرا، وكثرة الأفواه المنتظرة لقوتها.. كل ذلك لم يحفز مالكي الأراضي على زيادة أجرها الذي لا يلبي حاجياتنا الضرورية.. عاملة بجهد رجل وأجيرة بجهد امرأة، فأين العدل هنا؟

لقد تزوجت قريبتي من هذا الرجل الكهل ورمت بنفسها قربانا في نهر الأقدار، حيث قضت حياتها كنرجسة ليّنة لم ترى غير الربيع.. قرب شجرة راسخة الأعراق قد اختبرت صيف العمر وشتاءه

وحتى يوم عثَرَت على وظيفة "عاملة نظافة" في البلدية، رموها أعمامي وزوجاتهم بسهام قدفهم بدل اعانتها، فما بالك بالغرباء!.. هم يرضون لها ولنا كل سنة أن نتسلق الجبل ونواجه مخاطره، لجني محصول الزيتون بعدة لا تزيد عن الإرادة، وبعض المناجل والعصي والمزابر والسواطير، كي يقاسموننا بعد نهاية العصر في قطرات الزيت بحجة ملكية العائلة كلها لبستان الزيتون، ولا يرضون ذلك لزوجاتهم اللواتي ملّت منهن شوارع التسوق والتنزه في المدينة. خوف أمي وخشيتها على سمعتنا وشرفها اضطروها لغسل الصوف في المنازل، واعدادها أفرشة لعرائس القرية، وبينما تطلق النسوة زغاريدهن فرحة على بناتهن، تطلق أمي تناهيدها حسرة على بناتها بعدما تقدم بهن السن وفقدت الأمل في إمكانية ارتباطهن، وحتى إن تقدم أحدهم فأي سبيل ستسلكه لتؤمن مصاريف العرس والجهاز، في الوقت الذي لابد أن تهتم فيه بمصاريف وأدوية أخي، الذي هدّه مرض السّكري وهو في عز صباه؟

لن أعلل زواجي بالرجل الكبير على أنه حب فيمن يملك الخبرة في الحياة، وأن الحياة الزوجية تحتاج إلى العقل الراجح والحكمة، لدى فضلت زوج كبير السن يرعاني ويدللني على صغير السن، الذي يشقيني ولا يصون مشاعري.. بكل صراحة تزوجته لأني لم أكن مستعدة لأكبد مشقة الحياة الزوجية مع شاب لا يزال في بداية الطريق.. أردته رجلا غنيا يقدرني بلغة المادة والمهر وفستان العرس، بل أردته فعلا لمجرد أنه القطار الذي يجب أن ألحق به للهروب من شبح العنوسة، دون اِلتفات إلى شخصيته وتفكيره ومقدار رجولته ودرجة تحمله للمسؤولية.. لقد حصلت على السكن المريح، والسيارة الفارهة ومتعة السفر، والتسوق مع هذا الزوج الذي يلبي طلباتي ويدللني.

وجدت مصلحتي من الزواج في هذا الرجل برغم فارق السن بيني وبينه، وبالرغم من الفوارق الطبقية التي بيننا، وأنا هنا أعد من المحظوظات، فنحن في عصر يحلم فيه الفقير بالارتباط بزوجة غنية لا فقيرة مثلي تثقل عليه كاهله، وتزيد همه ونكده، فما بالك بالأسر الغنية التي اعتادت على ألا تختار لأبنائها من الزوجات إلاّ الفتيات اللواتي ينتمين إلى طبقة تناسب طبقتهم الاجتماعية؛ وهي تفعل ذلك مع جميع أبنائها الذين يتمتعون بمناصب وظيفية مرموقة ووضع تعليمي متميز، وترفض أن تتنازل عن تلك الخطوط العريضة في اختيار نسبها؛ لدرجة أنها ترفض أن تزوج أبناءها من أسرة فقيرة، مهما كانت الفتاة متميزة عن غيرها من الفتيات ذوات الأسر الجيدة على الصعيدين الثقافي والجمالي.

إلاّ أن تلك القناعة تتغيّر حينما يكون لدى أحد الأبناء إشكالية ما، سواءً كانت مشكلة صحية كأن يكون مصاباً بمرض ما أو معاقا،ً أو أن يكون بوضع وظيفي بسيط وحظه من التعليم قليل جداً، أو أن يكون سجين سابق، أو أن يكون كهلا ماتت زوجته أو لازمت الفراش لمرضها، كحال هذا العريس الذي تنازلت اسرته عن شروطها تلك، وبحثت عني كفتاة من أسرة فقيرة؛ لا لشئ إلا خدمة لمصالحها واعتقاداً منها أني سأكون ممتنة وسعيدة، وأكثر صبراً وقبولاً من الفتاة التي تأتي من ظروف اقتصادية جيدة.. يريدون مني أن أكون خادمة وممرضة له في مظهر زوجة دون شكوى أو تدمر، وأنا لا أريد إلا حياة كريمة لعائلتي..

أعلم أنه زواج مصلحة، وهو أيضا متفق معي على ذلك، المصلحة التي تطحننا أنا وأنتِ في نفس الرحى، وتوقعي أن الدور سيحين عليك لأنك كمثل أي موظفة تملك راتبا شهريا ستقعين بين خيارين، إما أن تتزوجي برجل غني يغنيك عن مشاكل الحياة ويوفر لك كل شيء، وإما أن تختاري شابا متوسط الحال، وستضطرين حينها أنت لصرف راتبك، لأن معظم الذين تقدموا وسيتقدمون لك نيتهم أن تخففي على الواحد منهم العناء، وتكاليف الحياة العالية، وهذه مصالح مشتركة مشروعة لتمضي الحياة. هناك من يتقاضى أجرا شهريا ضعيفا لا يكفيه لا للكراء ولا لمصروف البيت، ومتطلبات الأولاد، وكزوجة تملك عملا أما المساعدة فتمشي الحياة الزوجية في أمان أو ترفض ذلك والحياة الزوجية لا يمكن أن تستمر في مثل هذه الظروف …". كانت تسرد لي مستقبلي الزوجي كعرافة متمرسة تحاول الاطاحة بزبونتها لاقناعها بما لم تقتنع به أبدا..

لقد تزوجت قريبتي من هذا الرجل الكهل ورمت بنفسها قربانا في نهر الأقدار، حيث قضت حياتها كنرجسة ليّنة لم ترى غير الربيع.. قرب شجرة راسخة الأعراق قد اختبرت صيف العمر وشتاءه، ووقفت أمام عواصف الدهر وأنوائه.. لكنها الى حد بعيد حققت أهدافها، ووفقت في شراء مزرعة، حيث عملت فيها أمها بجهد على إنتاج المحاصيل الزراعيّة، وتجهيز الطعام، والعناية بالحيوانات، وجلب الماء، والعمل بالتجارة والتسويق.. فاليد المتشققة التي اعتادت على العمل بجد في أراضي الناس، لن تعتاد على الراحة حتى بعد أن أصبحت مالكة لأراضيها.

كما أشرفت على تأمين الدواء لأخيها، وتجهيز أختيها كي يتزوجا بما يرضي الله والمجتمع، وسعت جاهدة في زيادة ممتلكاتها وأرصدتها المالية.. ولم تكن تعتقد أن هناك شيئا ينقصها وهي في حالتها هذه، كانت كل ما تريده تستطيعه ما دام يشترى بالمال، وكان زوجها يحترمها ويحفزها على تقمص شخصيته، في تفوقه، في قسوته، وفي حزمه، حتى أصبح الناس يحترمونها، ثم يخشونها، ثم يكرهونها.. ولم يعد لها من ومضات عمرها إلا ذلك البريق الذي يضئ عينيها، كلما رأت شابة تمسك يد زوجها الشاب في سعادة ورضى.. هذه النظرة المؤلمة التي تذكرها دائما بذبول زوجها، وشيخوخته الفانية، وبشبابها الغض في ظل حياة فاترة لا سعادة فيها.. كانت هي الحياة وكان هو موتها الحي..

إن القافلة الزوجية التي تسير في المسار غير الطبيعي، ولا تحكمها القواعد والأسس الإيجابية، تكون هشة ولا تصمد في وجه الأزمات، ولا تستمر لوقت طويل، كونها مبنية على أسس استغلالية ونفاق، وبمجرد حصول الطرف المستغل على مراده سوف يبدأ الطلاق الروحي، هذا ان لم يؤدي إلى الطلاق الشرعي، فالعلاقة بين أي زوجين يفترض أن تقوم على المودة والرحمة والتعاون، والسعي لتحقيق أحلامهما وتطلعاتهما بجهدهما، أما إذا أسس على الأنانية والأطماع المالية والمنفعة الشخصية.. فإنه يشير إلى أن طرفي العلاقة يعانيان من ضغوطات واضطرابات نفسية، كالأنانية وحب الذات والاتكالية، والإحساس بالدونية، وبالتالي يمثل أسوأ أنواع الانحطاط الأخلاقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.