شعار قسم مدونات

الأكراد والخذلان الأمريكي.. إن لم تتعلم من الضربة الأولى فأنت تستحق الثانية!

BLOGS نبع السلام

كما كان متوقعا بقوة، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إطلاق عملية "نبع السلام" في مناطق شرق الفرات داخل الأراضي السورية. سنناقش في هذا المقال عدة محاور رئيسة حول أسباب، أهداف ومآلات "نبع السلام".

 

أولا: منطقة العمليات العسكرية وأهدافها

تقع منطقة عمليات "نبع السلام" في شمال شرق سوريا على الجانب الشرقي من نهر الفرات. تستهدف تركيا من وراء هذه العملية إبعاد قوات سوريا الديمقراطية، والتي تتألف في معظمها من وحدات حماية الشعب الكردية المصنفة لدى تركيا "إرهابية"، إلى مسافة تتراوح بين ثلاثين وأربعين كيلو مترا في عمق الأراضي السورية، وذلك على امتداد الشريط الحدودي التركي السوري الممتد بين جرابلس غربا والمالكية شرقا بطول يقدر بحوالي 450 كيلو متر. تقول أنقرة إن استكمال هذه العملية سوف يمكن من إنشاء شريط حودي آمن بالنسبة لها إضافة إلى إمكانية إعادة ملايين اللاجئين السوريين في تركيا إلى هذه المناطق.

 

ثانيا: الدوافع التركية لشن عملية نبع السلام
كلمة "حلفاء" لا يمكن أن تصف بدقة العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والأكراد، فهذه العلاقة كانت أقرب إلى الشراكة المرحلية لتحقيق أهداف مرحلية تتعلق بقتال تنظيم الدولة، أو على الأقل هذا هو الهدف المعلن

في الحقيقة، أسوة بعمليتي "درع الفرات" في جرابلس و"غصن الزيتون" في عفرين، فإن عملية نبع السلام تستهدف قطع الطريق مرة واحدة أمام طموحات الأكراد في إنشاء دويلة كردية في شمال وشمال شرق سوريا، وهو ما يعتبر تهديدا جديا للأمن القومي التركي ولوحدة وسلامة الأراضي التركية لأسباب يعرفها القاصي والداني. فمن جهة، الاتحاد الديمقراطي الكردي وقوات حماية الشعب الكردية لا يخفيان عداءهما للدولة التركية. لذلك فإن إنشاء كيان كردي معادي في هذه المنطقة سوف يحجم الدور التركي ويقطع صلاته بمحيطه الحيوي. ومن جهة أخرى، يعرف الجميع بان لدى الأكراد، خاصة في سوريا والعراق طموحات انفصالية لا تخفى على أحد. فأكراد كردستان العراق على سبيل المثال اتخذوا خطوة كبيرة في هذا الصدد بتنظيمهم لاستفتاء الانفصال عام 2017. وعلى الرغم من أن نتيجة الاستفتاء كانت ساحقة باتجاه الانفصال، إلا أن الرفض المطلق لهده الخطوة من جميع دول الجوار أولا، وتخلي داعميهم عنهم في اللحظات الحرجة ثانيا، حال دون تنفيذ الحلم الكردي.   

 

استنادا لذلك، فإننا نعتقد بأن المخاوف التركية من إنشاء كيان كردي معادي لها على حدودها الجنوبية في سوريا تبدو مشروعة، خاصة أمام ما بدا سيرا محموما لقوات سوريا الديمقراطية في اتجاه الانفصال، على مبدأ الخطوة خطوة. ففي تشرين الأول من العام 2015 أعلن الأكراد إنشاءهم منطقة إدارة ذاتية في شمال سوريا. وفي عام 2016 اجتمعت أكثر من 150 شخصية من أحزاب "مجلس سوريا الديمقراطي" في مدينة الرميلان في الحسكة وأعلنوا في نهاية مؤتمرهم عن إنشاء ما يسمى بـ"النظام الاتحادي الفيدرالي". هذا النظام يشمل ثلاث مقاطعات وهي الحسكة وعين العرب كوباني بالإضافة إلى عفرين. كان الأكراد بحاجة ماسة للسيطرة على مدينة جرابلس الواقعة آنذاك تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية من أجل استكمال إقليم كردي متصل في شمال سوريا وصولا للبحر الأبيض المتوسط. إلا أن إطلاق تركيا لعملية درع الفرات في آب أغسطس من العام 2016 ولاحقا عملية غصن الزيتون في كانون الثاني يناير من العام 2018 حال دون استكمال الحلم الكردي. لم يتبق تحت سيطرة الأكراد من المناطق الملاصقة للشريط الحدودي السوري التركي سوى المنطقة الواقعة شرق الفرات بين جرابلس والمالكية، وهي المنطقة التي تستهدفها تركيا حاليا.

 

ثالثا: لماذا خذل الأمريكيون "حلفاءهم" الأكراد؟

برأينا، إن كلمة "حلفاء" لا يمكن أن تصف بدقة العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والأكراد، فهذه العلاقة كانت أقرب إلى الشراكة المرحلية لتحقيق أهداف مرحلية تتعلق بقتال تنظيم الدولة، أو على الأقل هذا هو الهدف المعلن من هذه العلاقة. إلا أننا نعتقد أيضا وبقوة بأن رعاية الولايات المتحدة للأكراد وتسليحهم وإمدادهم بالموارد المالية كانت تستهدف فعليا مساعدتهم على إقامة كيان كردي في شمال وشمال شرق سوريا وهذا هو الجانب الخفي أو غير المعلن.

 

الدافع الأمريكي من وراء هذه المساعدة ليس حبا في الأكراد وبحثا عن تحقيق أحلامهم وآمالهم في إقامة دولة، بل لتحقيق أهداف أبعد من ذلك يأتي على رأسها باعتقادنا استهداف تركيا والسعي باتجاه تفتيت المنطقة بأسرها خدمة لمصالح إسرائيل. وكنا قد عالجنا هذه النقطة بتفصيل أكبر في عدة مقالات سابقة منها: "من كردستان إلى عفرين.. هل يحق للأكراد دولة؟". إن الانتباه التركي لمثل هذه المخططات هو الذي ساهم بشكل أساسي في وأد التحركات الانفصالية الكردية في سوريا وخاصة من خلال عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون. لذلك فان الورقة الكردية في سوريا باتت بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ورقة محروقة لا طائل منها، وهو ما يفسر التخلي الأمريكي عن الأكراد وتركهم لمصيرهم أمام الجيش التركي في عملية "نبع السلام". إن عدم فهم الأكراد بشكل موضوعي لدوافع الولايات المتحدة الحقيقة من وراء دعمهم سياسيا وعسكريا هو ما يفسر وقوعهم في نفس الفخ مرة تلو المرة.. فقصة التخلي الإسرائيلي والأمريكي عنهم بعيد استفتاء كردستان العراق لم يمض عليها سوى أقل من عامين!

 

رابعا: هل ستمر علمية "نبع السلام" بسلام؟

على الجانب العسكري، بعد انسحاب الجنود الأمريكيين من مواقعهم على الحدود التركية السورية، والذين كانت قوات حماية الشعب تعول على مساندتهم في الحيلولة دون الهجوم التركي، أصبح الأكراد وحيدين في مواجهة مباشرة مع الجيش التركي والذي يعد تاسع أقوى جيش في العالم حسب تصنيف غلوبال فاير باور للعام 2019، إضافة لفصائل سورية مسلحة ومدربة يبلغ تعدادها ما يزيد على ثمانية آلاف مقاتل. في المقابل، يبلغ تعداد القوات الكردية حوالي 60 ألف مقاتل، تبعا لإحصائيات غير رسمية. تم تزويد هذه القوات بأسلحة ومعدات عسكرية ثقيلة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية بحجة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، مما أثار حفيظة أنقرة. لذلك تعهدت الولايات المتحدة لتركيا بسحب هذه الأسلحة بعد انتهاء الحرب ضد داعش، إلا أن هذا لم يحصل. بل على النقيض من ذلك، استمرت الولايات المتحدة بتقديم شحنات ضخمة من السلاح والعتاد الحربي لقوات سوريا الديمقراطية، حتى وصف الرئيس التركي هذه الشحنات بأنها كافية لتسليح جيش بأكمله، متسائلا عن الهدف من وراء كل هذا الأسلحة والمعدات.

 

إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، فإن موازين القوة تميل وبشدة لصالح الطرف التركي والفصائل السورية المدعومة من قبله بما لا يدع مجالا للمقارنة بين الفريقين المتصارعين. زد على ذلك بأن جغرافيا منطقة العمليات تعتبر مكشوفة وسهلة مقارنة مع مناطق أخرى جبلية أو وعرة كمنطقة عفرين، مما سيسهل عمليا من إنجاز المهمة التركية. يبقى أن تكشف لنا الأيام المقبلة من المعركة فيما إذا كانت الولايات المتحدة قد زودت الوحدات الكردية سرا بأسلحة متطورة يمكن أن تعيق التقدم التركي أو تطيل أجله. فعامل الوقت حاسم في هذه المعركة بين الطرف التركي الذي يريد حسمها بأسرع وقت تجنبا لمزيد من التوتر الدبلوماسي والسياسي مع كثير من الدول المعترضة على العملية، وبين الجانب الكردي الذي، إن قرر المواجهة حتى النهاية، فسيسعى لإطالة أمد النزاع وإظهار ما يترتب عليه من معاناة إنسانية أملا في كسب المزيد من التأييد والتضامن الدولي.

 

أما على المستوى السياسي والدبلوماسي، فالجميع يعلم بأن تركيا تخوض حربا شرسة غير معلنة مع العالم الغربي في أوروبا والولايات المتحدة. لذلك فإن التحرك التركي في سوريا لن يكون خاليا من ضغوط دبلوماسية وسياسية كبيرة على تركيا. هذه الضغوط لا تأتي حبا في الأكراد بالتأكيد، ولكنها تأتي كنوع من اقتناص الفرص للنيل من الخصم. من أجل ذلك قلنا إن موضوع الحسم السريع مهم للغاية، لأن امتداد أمد العمليات أو ما يقد يرافقها من معاناة إنسانية، يمكن أن تستخدم ذريعة للبدء بخطوات تصعيدية ضد تركيا.

 

خامسا: "نبع السلام".. نحو وجود تركي طويل الأمد في سوريا..

إذا سارت الأمور كما هو مخطط لها، فإن تركيا ستسيطر في نهاية العملية، بالإضافة لمنطقتي جرابلس وعفرين، على ربع مساحة سورية تقريبا، مما سيفرضها وبقوة كلاعب أساسي على الساحة السورية ويخلق بالتالي توازنات جديدة على المستويين العسكري والسياسي. في المقابل، نعتقد بأن التواجد التركي في سوريا سيكون وجودا طويل الأمد وغير محدد المدة. فبعد استكمال أهداف العملية ستسعى تركيا لإعادة ملايين المهاجرين من السوريين وإسكانهم في هذه المناطق من أجل خلق حاجز ديمغرافي يحفظ أمنها ويمنع عودة المليشيات الكدرية ثانية لمنطقة الحدود. الانسحاب التركي من سوريا سيكون مرتبطا بإيجاد حل سياسي شامل ومدعوم دوليا، وهو ما يبدو حتى الآن بعيد المنال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.