شعار قسم مدونات

الطريق لساحة التحرير.. قراءة في المشهد العراقي

blogs العراق

ما زالتِ الأنظار شاخصة صوب ميدان التحرير في مصر، نسمع هتاف الأحرار في ارض الكنانة، وهم يتطلعون لدولة كريمة تحفظ لهم حقوقهم وحريتهم، فجأة تتنقل الأبصار باتجاه اخر حيث العراق، بغداد السلام، وتتوجه جموع إلى ساحة التحرير، لتنتقل روح الحرية من ارض الكنانة إلى بغداد الحبيبة.

  

ليس بعيداً على بغداد أن تختطف الأبصار، فهي المدينة الحديثة الولادة، التي جاءت بعد مدن عظيمة حافرة في عمق التاريخ، إلا أنها بمدة وجيز خطفت الأنظار حولها وأصبحت قبلة العلم والسلام، واليوم مرة أخرى يعيد رجالات بغداد لبغداد الصدارة، فبعد أن كان حديث الإعلام عن مصر والسودان، أصبح حديثه في الصباح والمساء عن غضب أهل بغداد على فساد حكومتهم التي صبر عليها شعبها ما يرنو عن عقد ونصف من الزمن.

 

فبعد أن أسقط نظام صدام في نيسان ٢٠٠٣م، وأعلنت أمريكا احتلال العراق، وبدأت تتوالى عليه حكومات الفساد، واحدة تلو الأخرى، فكلما جاءت حكومة كانت العن وأقسى من اختها، استشرى الفساد في المؤسسات والدوائر الحكومية، ورأس السلطة فاسد، والانتخابات محاصصة طائفية واضحة، وتتوالى الأيام على العراق، وينشغل الشعب في مصائبه، فمرة حرب طائفية تأكل الأخضر واليابس، وأخرى انفلات امني، وتفجيرات يومية تحصد ارواح العراقيين بشكل يومي، وكأنه قد كتب على هذا الشعب أن يتعاقد مع الموت والحزن إلى ما لا نهاية، وعلى مدار عقد ونصف يستطيع العراقي أن يحصي أيام رخائه التي ربما لن تزيد عن عدد أصابع اليد، ولم تكتفِ الدولة بهذا فحسب، بل سلمت في حزيران ٢٠١٤م مدن عدة إلى أقسى تنظيم عرفه العالم في الإجرام، ليدفع المواطن ضريبة مواطنته وعيشه في بلد يمسي فيه عراقياً، ويصبح تحت دولة داعش، لتلتصق به تهمة الإرهاب وتكون وصمة ليس له ذنبٌ بها.

   

  

يستمر الحال بالعراق على مدار عقد ونصف ما بين حرب وحرب، ثمة حرب أخرى، ويبقى المواطن يدفع ضريبة كل حرب، فقد دفعت الموصل ضريبة تحريرها، أربعين ألف إنسان من أبنائها لتعود إلى حضن الوطن من جديد، ودمر معظم المدينة وبنيتها التحتية، لتكون مدينة خالية من مقومات الحياة بعد عامين من تحريرها، وها هي تنتظر وعود الحكومة بإعمارها وإعادة الحياة اليها، ولكن الوعود ما زالت حبراً على ورق، وليستِ البصرة أفضل حالاً من الموصل، فالبصرة فيها من الخيرات ما لا تعد ولا تحصى، ولكن ليس لأهلها منها شيء، أو كما في المثل الشعبي : "اسمك بالحصاد ومنجلك مكسور" اسمهم مدينة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من الخيرات الكثيرة، خرج البصريون في تموز ٢٠١٨م بمظاهرات حاشدة، جوبهت بالقمع والرصاص، وما زالتِ البصرة تثور وتهدأ ما بين الفينة والأخرى، وفي كل مرة تقابل احتجاجاتهم بالقمع والرصاص، ويسقط شباب في عمر الزهور، لتزهر بدمائهم ربيع العراق القادم.

 

واليوم تندلع الاحتجاجات في قلب العراق، وعلى مقربة من المنطقة الخضراء حيث يتربع حيتان الفساد، يخرج الشعب الجائع الذي ضحى في كل المعارك والمواقف، فأبناؤه من حرروا الموصل من داعش، وأبناؤه من قتلوا في التفجيرات، ورغم كل التضحيات إلا أن المواطن لم يظفر بحقوقه في ظل حكومة الأحزاب الدينية، سواء الشيعية والسنية منها، أحزاب أثبت فشلها وسوءها وبان عورها وزيف قيمها التي تدعو لها.  خرجتِ الحشود الغاضبة في ١/اكتوبر/٢٠١٩م يوم مشهود من ايام العراق الجريح، الذي لم تندمل جراحاته منذ ١٥ عاماً، واجتمعتِ الحشود في ساحة التحرير في بغداد، تهتف ضد الفاسدين والفساد، ولم تكن هذه المظاهرات أفضل من سابقاتها من حيث تعامل القوات الأمنية معها، فقد جوبهتِ من الساعات الأولى لاندلاعها بالرصاص وخراطيم المياه، وسقط عددٌ من الشهداء والجرحى، على مرأى ومسمع من الحكومة، وقد كان سقوط الشهداء الدفاع الأقوى لاستمرارها وازدياد حدتها، ومضى المتظاهرون يجابهون الرصاص بصدورهم العارية، وهتافاتهم الوطنية، يبحثون عن حياة كريمة، ووطن يحترمهم.

 

لم تفتر عزيمة أهل بغداد هذه المرة، وعلى ما يبدو ان ربيع العراق قد ان أوانه، رغم مخاوف من تصاعد العنف ضد المتظاهرين في الأيام القادمة، ورغم وعود رئيس الوزراء بالإصلاحات المزعومة ولقاء رئيس مجلس النواب بمجموعة من ممثلي المتظاهرين كما زعموا في وسائل إعلامهم. هذه جولةٌ سريعة عن أحوال العراق، تشير أن التظاهر والمناداة بالحقوق واجبٌ، وهو ما اتسمت به تظاهرات بغداد، ولعل ما يطمح له أهل بغداد كما كل العراقيين، إنهاء الفساد في مؤسسات الدولة العراقية، بالإضافة لإنهاء فساد الأحزاب الإسلامية بشقيها السني والشيعي، التي عاثت في الأرض الفساد مذ تسنمها السلطة في العراق، فقد اثبتت فشلها وسوء صنعها، كما أن فساد الأحزاب الإسلامية، لا يعطي البراءة للأحزاب العلمانية، فهي مشاركة في هذه الحكومات المتعاقبة على مدار عقد ونصف من الزمن.

 

كما يطمح العراقيين إلى دولة مستقلة تحترم أبنائها وتستثمر في خيراتها، بوجود دولة مدنية تحترم الإنسان بعيداً عن انتمائه القومي والطائفي، وتسعى لاستثمار الإنسان والمحافظة عليه، وضمان حياة كريمة وحرية واسعة في الحياة، هذه دولة لا تشترط حاكماً بمرجعية دينية أو لا دينية، ليس مهماً مرجعيته، لكن المهم كفاءته ومقدرته على تقديم الأفضل لشعبه وابناء شعبه، حاكم ينتخب بإرادة حرة، بعيداً عن تأثير العمامة، سواء اكانت سنية أم شيعية، ويسعى الشباب إلى بناء عراق يحقق لهم احلامهم ويضمن لهم مستقبلهم، بعيداً عن الحروب والاقتتال، عراق يضمن لهم حياة سعيدة كريمة، عراق يستثمر طاقاتهم وإمكاناتهم، وهو حلمهم وشعار ثورتهم، نريد وطناً، نحيا فيه كرماء اعزاء، يضمن لنا العيش الكريم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.