شعار قسم مدونات

لغز ديفيد رودس.. لماذا اختار هذا التوقيت للاستقالة؟

ديفيد رودس

بعد بث مقابلة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على قناة "سي بي إس" الأميركية، يغادر ديفيد رودس رئيس قسم الأخبار، وستتولى منتجة برنامج "48 ساعة"، سوزان زيرينسكي، رئاسة القسم الإخباري مكان رودس بدءًا من أول مارس/ آذار المقبل، وبذلك تصبح زيرينسكي تتولى هذا المنصب. أعلنت الشبكة استقالة رودس مع بقائه على مباشرته لمهام عمله حتى الأول من مارس، وعقب الإعلان عن الاستقالة.. كلٌّ على ليلاه غنى؛ فادعت بعض الصحف المصرية أن الإقالة سببها ضغط الحكومة المصرية، وارتأت صحف عالمية أن أسبابًا أخرى هي السبب؛ فهل أصابت لعنة الفراعنة رودس؟ 

لم تؤمن "نيويورك تايمز" بنظرية لعنة الفراعنة، وارتأت أن مغادرة رودس تحمل نوعًا من المفاجأة؛ فعقده ينتهي آخر فبراير/ شباط المقبل. كانت زيرينسكي مرشحة فقط لتقديم برنامج "60 دقيقة"، وعليه فإن أمرًا غير مفهوم يجري في الكواليس. تناولت وسائل إعلامية أخرى –قناة روسيا اليوم- الموضوع من زاوية أخرى، وأشارت لتكهنات حول عملية تنظيف في أروقة القناة، وأن تلك التغييرات مبعثها اتهامات بالتحرش الجنسي داخل الشبكة والشركة الأم للقناة، وأن تراجع نسبة المشاهدة والتورط في فضيحة جنسية وراء هذا القرار المفاجئ. 

الحديث عن التحرش الجنسي في "سي بي إس" يعيدنا إلى سبتمبر/ أيلول 2018 توقيت إقالة المدير التنفيذي اليهودي، ليزلي مونفيس، أحد أقارب مؤسس إسرائيل ديفيد بن جوريون، بعد أن اتهمته الفنانة الأميركية، إيلينا دوغلاس، وخمس نساء أخريات بالتحرش الجنسي، وسبق أن أقيل مقدم البرامج المعروف، شارلي روز، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 على خلفية اتهامات بالتحرش الجنسي.

ربطت تكنهات بين بث مقابلة السيسي واستقالة رودس، وأن الضغوط الإسرائيلية على الشبكة سرَّعت وتيرة إقالة عن رودس على حد زعم بعض الصحف المصرية

لكن رودس أعلن على حسابه الشخصي بتويتر أنه سيصبح مستشارًا للمدير التنفيذي للقناة، وذكر أنه أمضى ثمانية أعوام في منصبه وأن الوقت قد حان للتغيير، ما يعني أنه لا وجود للإقالة وإنما ترقية لمنصب أرفع. ربما يشكك البعض في قيمة تلك الترقية، أو أن التغيير الذي يتحدث عنه رودس لمجرد حفظ ماء وجهه، أو أن الترقية حقيقة إلا أنها لتهميش دور دورس في الشبكة! هذا يرجع بنا إلى عام 2001 حين رشح حسني مبارك وزير خارجيته عمرو موسى لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، وكان ترشيحًا يرمي إلى تحجيم دور موسى وتقليص شعبيته. 

ولأننا نتحدث عن "سي بي إس"؛ فإنه يجدر بنا التعريج سريعًا على نقطة هامشية حول موسى، وهي أن الإعلامي اللامع بالشبكة، شارلي روز، قد سأل مبارك في مقابلة تلفزيونية: متى ستختار نائبًا؟ ومن سيكون هذا النائب؟ ومتى تنتهي مدة رئاستك لمصر؟ وغضب مبارك من السؤال وظن أن لعمرو موسى صلة بهذا السؤال تحديدًا؛ فقرر إقصاءه من دائرة الضوء!

ويبقى السؤال: لماذا استقال ديفيد رودس الآن بالتحديد؟

ربطت تكنهات بين بث مقابلة السيسي واستقالة رودس، وأن الضغوط الإسرائيلية على الشبكة سرَّعت وتيرة إقالة عن رودس على حد زعم بعض الصحف المصرية. هذه النظرية ليست أكيدة ولكنها ليست بالمستحيلة في الوقت نفسه؛ فالسيطرة الصهيونية على الإعلام الأميركي واضحة للعيان، وما جرى لجيم كلانسي وهيلين توماس في شبكة "سي إن إن" أقوى دليل على ذلك.

وعلى سبيل الذكر، في 17 يناير/كانون الثاني 2015، وبعد تغريدات على تويتر انتقد فيها إسرائيل، استقال، جيم كلانسي، مقدم برنامج "ذا بريف" بعد عمله لصالح "سي إن إن" 34 عامًا. انتقاد كلانسي لإسرائيل جاء على خلفية الهجوم على مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية، وأغلق كلانسي حسابه على تويتر دون إبداء أسباب. 

إذا رجعنا للوراء قليلًا، ففي مايو/أيار 2010 وقبل أشهر من احتفالها بعيد ميلادها التسعين، استقالت عميدة صحافيي البيت الأبيض، هيلين توماس، من منصبها بعد بسبب تصريحات لها ضد إسرائيل، أثارت عاصفة من الانتقادات. تقاعدت توماس عملها من العمل الصحافي بعد ستين عامًا قضتها بين أرجاء البيت الأبيض، وبعد أن التقت الرؤساء الأميركيين من جون كيندي إلى باراك أوباما، بعد تصريحات حول إسرائيل أدلت بها في 27 مايو من العام نفسه.

أثناء خروجها من حفل في البيت الأبيض للاحتفال بالإرث اليهودي- الأميركي، قالت لبعض الصحافيين: "إن الفلسطينيين هذا شعب محتل، وهي أرضهم، ليست ألمانيا أو بولندا، وعلى الإسرائيليين العودة إلى أوطانهم"، واعتبرت توماس الإسرائيليين محتلين ويجب عليهم الخروج من فلسطين. وعندما سألها الصحافي: ما هي أوطانهم؟ أجابت توماس: بولندا وألمانيا والولايات المتحدة وكل مكان آخر.

نشر الصحافي تصريحات توماس على مواقع إلكترونية ومواقع إخبارية أميركية ومواقع لمؤسسات يهودية وإسرائيلية؛ ففتح النيران على توماس وطالتها انتقادات من مسؤولين ومعلقين في الولايات المتحدة، وانتقدها، روبرت غيبس، الناطق باسم البيت الأبيض في مؤتمر صحافي تصريحات توماس المعادية لإسرائيل. بعد ساعات، أعلنت مجموعة "هيرست" استقالة توماس من المجموعة، كما تزعم، آري فليشر، الناطق السابق باسم الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، الحملة ضد توماس مطالبًا بفصلها، وكذلك الحاخام اليهودي نيز يانوف. 

لم تنتفع توماس بالاعتذار الرسمي الذي نشرته على موقعها الإلكتروني؛ ففسخت وكالة "هيرست الإخبارية" عقد توماس، وأعلنت شركة "ناين سبيكرز" -وكيلة لأعمال توماس وتنظم محاضرات وندوات للمشاهير- انفصالها عن توماس، كما ألغت مدرسة بيثيسدا الثانوية في ولاية ميريلاند -كانت قد دعت توماس للحديث خلال حفل تخريجها- استضافة توماس بسبب تصريحاتها، ووفق معهد "سايمون ويزنتال" اليهودي تصدرت توماس قائمة الشخصيات الأكثر عداءً لإسرائيل سنة 2010. قبل شهر من الاحتفال بعيد ميلادها الثالث والتسعين، توفيت توماس يوم السبت 20 يوليو/تموز 2013، وهي من أصل لبناني، هاجر والدها نهاية القرن التاسع عشر إلى الولايات المتحدة من لبنان.

هاتان الإطاحتان ارتبطتا مباشرة بانتقاد إسرائيل، وهي تختلف عن الإطاحة بإعلاميين آخرين انتقدوا الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشكل فج، ومن هؤلاء يبرز اسم مقدمة البرامج الساخرة، كاثي غريفين، والتي أقيلت بعد نشرها صورة لها برأس دمية -تشبه ترامب- مقطوعة وملطخة بالدم، وقوبلت الصورة بحملة إعلامية اضطرت غريفين على إثرها للاعتذار، لكنه اعتذار دون جدوى كما جرى مع هيلين توماس. 

كذلك، قطعت الشبكة علاقتها بمقدم البرامج، رضا أصلان، بعد أن هاجم ترامب في تغريدات (بذيئة) على تويتر، ويعد النصر الوحيد الذي أحرزته "سي إن إن" في حربها مع ترامب ما يتعلق بكبير مراسليها في البيت الأبيض، جيم أكوستا، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018. وقد بلغ الاحتقان حدًا دفع ترامب لوصف أكوستا بالوقح، ومن جانبها اتهمت الشبكة، سارة ساندرز، المتحدثة باسم ترامب بالكذب، ونشرت الشبكة بيانًا على تويتر يقول إن منع أكوستا كان "عقابًا له على أسئلته المحرجة"، وإن "تبرير المتحدثة باسم البيت الأبيض، سارة ساندرز، كاذبة إذ وزعت تهمًا باطلة وذكرت حادثة وهمية".

لم نعرف حتى الساعة السبب الرئيسي لنكبة البرامكة، ودفن هارون الرشيد السر معه، لكن ولحسن الطالع نرى ديفيد رودس حيًا يرزق، وربما يميط اللثام قريبًا عن تفاصيل غير معلنة حاليًا، أو تكشف لنا الأيام عن حقيقة الأمر، وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا، لكن أرجوك لا تؤمل كثيرًا في لعنة الفراعنة. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.