شعار قسم مدونات

البشير.. سباق الكرسي فوق أسفلت الدماء والدموع

blogs عمر البشير

لا ينكر الواقع السياسي والاقتصادي في السودان هذه الأيام إلا مكابر أو منتفع من وراء النظام، لكن وبعيدا عن كلا رأي الفريقين، ضد نظام عمر البشير أو مع نظامه، نريد أن نطرح وجهة نظر هي بمثابة همسة للصادقين والحادبين على مصلحة السودان أولا والسودان آخرا. نحن السودانيون لا نعشق إلقاء الحجارة، ولا تسيير المواكب، ولا نعشق رائحة الغاز المسيل للدموع، ولكننا لا نخشاه قطعا، ولا نحب أن نسيء للشرطة وهيبة الدولة، لكننا لا نطيق أن يسيء لنا أفرادها، ولا أن ينتقص كرامتنا كائن من كان.

  

نحن نكره النظام وبعضنا يتمرغ في عشقه صادقا أو كاذبا، فالخلاصة أن النظام انتهى وبجدارة عالية من شرخ بل من تمزيق آخر ما تبقى مما يسمى باللحمة الوطنية لنا، يوم أن سقط عدد من المتظاهرين السلميين برصاص حي غادر في مسيرات الخرطوم ومدن السودان الأخيرة، اعترف النظام ب 19 فقط وقالت المعارضة هم 39 لكن في النهاية نقول مقتل مواطن بريء هو مقتل شعب، إهانة مواطن هو إهانة شعب، إذلال مواطن هو إذلال شعب. شاءت الآلة الاعلامية للنظام أم أبت لكن هذا هو الشعور العام هذه الأيام، غبن وقهر وملل ويأس وحالة من السلبية القاتلة جراء الوضع العام والوضع الطارئ هذه الأيام.

ماذا يريد السودانيون من نظام الجنرال عمر البشير؟

هم بالطبع، من أكثر الشعوب وداعة، وطيبة شهد بذلك الموافق والمخالف، هذا الشعب له خصائصه الفريدة بلا شك، وأدق خصائصه النفسية أنه شعب يكره الذل واللهجة العنجهية والمتأمرة. يوم كان البشير يعانق الناس في الشوارع بأريحية ويرقص معهم كان هؤلاء الناس هم الشعب السوداني، يوم خرجت الجماهير بعفوية مطلقة تندد بقرار الجنائية الدولية ضده، كان هذا هو الشعب أيضا، ونفس هذا الشعب هو الذي يخرج الان في المواكب المختلفة بمدن السودان منددا بالنظام وبسياساته الانتحارية مؤخرا التي أوصلت الجنيه أمام الدولار كمقياس اقتصادي بارز إلى عتبة ال60 جنيها. هو نفس الشعب الذي تُغلق أمامه الطرقات المؤدية إلى القصر لتسليم مذكرة، بعدما فتحت سابقا بحب يوم تم تحرير منطقة (هجليج) من اعتداء الجارة الوليدة جنوب السودان. إذن فالعلاقات الوطنية المحلية بين الراعي والرعية الان في الحضيض. ولنجيب باختصار عن ماذا يريد الناس من النظام، ونحن نرى إلى الأن فرصة لإنقاذ الوضع من الانفلات، نكتب:

هذا الشعب يعشق الاستقرار، حتى المسيرات الأخيرة برغم محاولات الشيطنة الرسمية، الا أنها كانت الأبهى والأروع في نماذج التعبير عن الرأي بصورة سلمية سلسة

أولا: خبز، هذه الكلمة البسيطة الان هي مفتاح الأزمة، سيدي الرئيس، أقولها لك مخلصا رغم كرهي الشديد لنظامك، هذا الشعب طيب جدا لدرجة أنه لا يعبأ جدا بدعوات المعارضة لإقالتك، هذا هو الواقع، بلا أي زيادة وبلا مبالغة، الناس في الشوارع والطرقات والأسواق هذا جل حديثها وغالبه، وهذا ما ينسجم مع المزاج السوداني البسيط المتواضع، إن مطالبة تنحية الرئيس إلى اللحظة هي مطلب بعيد عن أفق الشارع الزاهد في الوضع السياسي برمته. فالفرصة لا تزال سانحة، دعونا من خطابات التخوين سيدي الرئيس، فالذين خرجوا لا علاقة لهم بالموساد ولا هم خلايا تخريبية مدسوسة، هذا خطاب قديم ممجوج ويعرف كل سوداني الأن مدى هشاشته، والان بات الناس في الشارع يتندرون به بالقول (امش يا عميل، تعال يا عميل).

قبل 19 ديسمبر 2018، كانت هنالك موجة غلاء وأزمة محروقات، لكن الشعب ظل صامتا، صابرا، لا يحتاج لوعاظ السلاطين (المداخلة) اللئام لينتشروا بصورة منظمة في المساجد، ويبدأوا في ترديد أسطوانة طاعة ولي الأمر. هذا الشعب يعرف ما الطاعة وما حدودها وما فقهها بأفضل من هؤلاء المرتزقة الصغار، لكنه الان لا يعرف كيف اختفى خبزه بين عشية وضحاهاه عن المخابز ومن أين جاءت الصفوف الطويلة المرهقة من بعد صلاة الفجر الى العشاء، ولعل الجواب داخل حزبكم سيدي الرئيس، لعله!

ثانيا: يقول نبينا عليه الصلاة والسلام (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، لو كان لكم حقا إرادة جادة في محاربة الفساد الذي أنكرتموه بداية وأقررتموه آخرا –كعادة الحكام العرب- لو كانت هنالك إرادة فالإصلاح سهل يسير، لكن البشير بدلا عن ذلك عمد لتعيين وجه شاب إسلامي لا يعرف له سابقة فساد تذكر، فقام بتعيين السيد (معتز موسى) رئيسا للوزراء، دعك عن الحديث عن صلة القرابة بينه والرئيس، لكن الآن الرأي العام في الشارع والأسافير يعرف أن الرجل لا يملك زمامه، لدرجة أن يختلف هو كرئيس وزراء علنا مع رئيس جهاز الأمن الفريق (قوش) -وهذا الرجل بمثابة (عمر سليمان) آخر في السودان على غرار مصر أليست مصر أخت بلادي- في إدارة الوضع الاقتصادي المأزوم، في عكس وضرب لأبسط أبجديات النظر السياسي القائل بأن رئيس الوزراء أعلى مرتبة وصلاحية من مدير جهاز تنفيذي كجهاز الأمن، لكنه بلد العجائب ونظام الغرائب.

قبل فترة صرح مسؤول رفيع أن المضاربين في الدولار هم 10 أشخاص معروفين بالاسم والعنوان، هكذا، ولم يحصل شيء بعدها، أطلقتم بأنفسكم لقب (القطط السمان) على جوقة الفساد، لكن لم تقدم إلى الان للمحاكمة أي قطة ولو عجفاء جرباء. أنشأت مفوضية لمكافحة الفساد واستؤجر لها مبنى ووضع رقم مخصص لاستقبال الشكاوى، يعرف أي سوداني أن الاتصال عليه يعني أن يفتح على نفسه بابا إلى جهنم من الأسئلة والتحقيقات، ويا ويلك لو كان المبلغ عنه رقما في النظام!

ثالثا: هذا الشعب يعشق الاستقرار، حتى المسيرات الأخيرة برغم محاولات الشيطنة الرسمية، الا أنها كانت الأبهى والأروع في نماذج التعبير عن الرأي بصورة سلمية سلسة، ان ما يمن به البشير على الشعب من نعمة الأمن ليس مرده لقواته الأمنية التي مهما بلغت من بأس وعنفوان لن تبلغ مثل ما بغلته قوات المهزمين من قبله في العهد القريب في دول الربيع العربي، هذا الأمن هو ببساطة مرده لطبيعة الشخصية السودانية الكارهة للعنف الميالة للهدوء والذكر والطرب وحب المرعى والزرع.

 

الحل يسير بعد، والكرة في ملعب النظام أكثر منها في جزء المعارضة، فإما أن تسدد الهدف أو تقصى، وحتى هذا السيناريو الأخير، لا أحد يستطيع الجزم كيف سيكون، وما عواقبه في دولة الإسلاميين العميقة
الحل يسير بعد، والكرة في ملعب النظام أكثر منها في جزء المعارضة، فإما أن تسدد الهدف أو تقصى، وحتى هذا السيناريو الأخير، لا أحد يستطيع الجزم كيف سيكون، وما عواقبه في دولة الإسلاميين العميقة
 

ليفهم هذا عقلاء النظام حتى لا يتمادوا في تقديراتهم الخاطئة لصمت الكتلة الكبيرة للشعب الان، فهو ليس بشعب جبان ولا متخاذل كما يردد بعضهم، لكنه حليم حد الحلم، هو ينظر ويراقب ويعد على يديه ويرى إن كان بإمكانه التنازل في سبيل تحسن الأوضاع ليوم غد، حتى صرنا أضحوكة في العالم ويقال ان للسودانيين بنك اسمه (الحمد لله) لشدة ما يرددونها لكل متساءل عن الأوضاع، هو يصبر ويلتمس بعد المعاذير للنظام، ويتسخط عليه أيضا وعلى المعارضة، هذا شعب مطبوع بالسياسة وقاد ثوراته قبل اليوم مرارا. عليه فالفرصة لا تزال سانحة لإرضاء هذا الشعب النبيل الصابر، فقط لو توفرت قليل من الإرادة.

وبدلا من أن ينظر عقلاء النظام للصورة ويحللوا المشهد بحيادية بعيدا عن الاستعلاء الأمني والتفكير العسكري الحزبي الضيق، بدأوا في جولة من استفزاز الشارع عبر مؤتمرات للبشير كانت في معظمها تزيد ضرام النفوس وتؤجج المشاعر، بل وصل الأمر لأن يشارك في فض المسيرات السلمية أكثر من تشكيل أمني، بداية بالشرطة والامن الوطني وما يعرف بالأمن الشعبي الخاص بالإسلاميين والامن الطلابي وهلما جرا، أصبحت الخرطوم مخيفة الان لكثرت هذه التشكيلات التي لا تعرف لها عددا، سيارات دفع رباعي تجوب الخرطوم بلا لوحات، ملثمون يرقبون المارة وهواتفهم شذرا، كل هذا الاستنفار الأمني يزيد الشعور بعدم الأمن.

الحل يسير بعد، والكرة في ملعب النظام أكثر منها في جزء المعارضة، فإما أن تسدد الهدف أو تقصى، وحتى هذا السيناريو الأخير، لا أحد يستطيع الجزم كيف سيكون، وما عواقبه في دولة الإسلاميين العميقة، ومن وراءه وما أجنداته، الشارع الأن حذر مترقب. وكل صيحة يحسبها النظام عليه، خاصة تلك الصيحات التي تأتي من داخله. يقال في عالم الحيوان، أن لكل مفترس مفترس آخر. أليست طبيعة الحكم في وطننا العربي أشبه بحلقة المفترسين على قناة ديسكفري؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.