شعار قسم مدونات

هل التلاعب بالكلمات يؤثر فينا؟

blogs حوار

من منّا لا يعرف الافتتاحية الشهيرة التي اختارها محاضر لتكون بداية لمحاضرته؟ حينما قال عبارته الغريبة الاستثنائية: "لو قلت أنّ نصف من في هذه القاعة أغبياء! فسيغضب الجميع.. أمّا إن قلت أنّ: نصف من في هذه القاعة أذكياء! فسيفرح الجميع ". كلّنا نعرف هاته العبارة الشهيرة ومن لا يعرفها منّا فأكيد أنّه كان قد سمع عنها من قبل، لكن رغم هذا كلّه، لم أقف طيلة حياتي أمام العبارة متأملا فيها، وقد كنت أتخذها سبيلا للدعابة لا غير، كطرفة أو كنكتة تروى هكذا من دون معنى.

  

لم أتدبّر في الواقعة جيدا ولم أحاول فهم المغزى منها. لم أحاول جاهدا أن أجد الحكمة التي تخبئها بين طيّاتها. حتى جرى ما جرى، إذ وأنا أحادث اليوم أحدهم لفت انتباهي تأثير الحب الذي يتغلّب دائما على الكره وأظنني وجدت ضالتي وتفطنت لِما كان ينقصني، إذ أنّ أغلب أفكاري كانت قبل هاته اللحظة خاطئة، لقد قلب ذلك الحوار القصير مفاهيمي رأسا على عقب، وجعلني أعيد التفكير مليا في أساليبي الحديثية بصيغها وكلماتها.

 
كان الحوار يدور حول تعليق قاله: "أكره الرجال ذوو الشعر الطويل"، فراح ردّي الذي بدا لي حكيما يخبره أن يدع الناس وشأنها، لكنّه أجابني بأنّه قال رأيه فقط! فاسترسل وسألني إن كان كلامه قد جرحني، فقلت له أن لا! لكن ربما ذلك الحديث الذي صدر عنك سيستجلب كره الآخرين لك فقط. ومن هذا المنطلق فكرت في أن الأسلوب قد يلعب دورا هاما في صيغة ما نقول، وسألته بحسن نية: ماذا قصدت إذاً من قولك؟ أراك تريد أن تغيّر البشر؟ فقال لي أنّه لا يريد ذلك، إنما يسميها ثقة وقول رأي وليست حبا في تغيير أحد. فقلت في نفسي أيعقل أن أكون مخطئا في محاولتي فهم الآخرين؟ وهكذا جاءني الالهام بالفكرة، تلك الفكرة الخاطفة والتساؤل المريب للشك!

التلاعب له أثر رهيب في النفوس إذ يطرق القلوب فتفتح له أبوابها، ويجعل الأذان تنفتح كزهور سقيت بنسمات الربيع لتنصت لما نقوله بصدر رحب، جملة بدل جملة تجعلنا نرى الجمال بدل البشاعة

وعرفت أن الأسلوب هو الذي من الممكن أن يكون الخاطئ، فجربت ذلك على الفور وسألته: لِم لَم تقل أٌفضّل الرجال ذوو الشعر القصير بدل ما قلت؟ وحينها كنت ستستجلب الحب لا الكره والسباب والشتم وما تكره. وتأكدت من أنني كنت مخطئا حينما أجابني عن هذا السؤال بقوله: صدقت لم أفكر بالأمر! هنا عرفت أن الأسلوب هو السر، تلاعبنا بالكلمات هو الترياق لحل المشكلات ومعالجتها، إذ يمكننا أن نواجه ونكون واثقين من أنفسنا بقولنا لرأينا دون أن نجرح أحدا.

قال الحسن البصري رحمه الله: " لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام تفكر، فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت. وقلب الأحمق من وراء لسانه فإذا أراد أن يقول قال، " فإن كان له سكت، وإن كان عليه قال". وهكذا قررت تغيير أسلوبي، فقد كان بوسعي التركيز على ما أحب لا على ما أكره.. فعوض قولي أمقُت الملحدين مثلا كانت عبارة كأُحب المؤمنين ستكون أفضل بكثير، رغم أنّ العبارتين تحملان نفس المعنى ونفس وجه العملة. فهما تصبّان معا في اتجاه واحد.

إلّا أنّ الأولى تخلّ بأسلوب الحوار الراقي وتجعل منّا حمقى! أنا هنا لم أتغيّر ولم أُغيّر رأيي فأفكاري ومبادئي راسخة كالجبال بيد أنّي وجدت أنّ بُنيتها كانت مختّلةً فقط، أسلوبي كان ينبع من قلب به كره فكيف له أن يفيد أو أن يؤثر في أحد؟ فما كان ينقصني هو سر الحب وتأثيره في النفوس، وعلمت أن الانسان ربما لو بدأ بنفسه يحاسبها على القول فلا يتسرع في الحكم أو النقد ولا ينطق حتى يتبين لكان هذا أفيد للجميع، فيا لجهلي ويا لقلّة حيلتي.

التلاعب له أثر رهيب في النفوس إذ يطرق القلوب فتفتح له أبوابها، ويجعل الأذان تنفتح كزهور سقيت بنسمات الربيع لتنصت لما نقوله بصدر رحب، جملة بدل جملة تجعلنا نرى الجمال بدل البشاعة، تجعلنا نرى أخطائنا بدل أخطاء الغير. تجعلنا نتتبع الحب في الأحاديث، تجعلنا نلعن الكره وما يتبعه من حسرات، فاللهم أبعد الكره عن قلوبنا كما باعدت بين السماوات السبع.

عرفت مما حدث أنّ الخطأ إن بدر من أحد فعلينا ألاّ نزيد الطين بلّة فنقول قولا يعقب أناً وعنادا، تعنتنا لا يجعلنا نعترف بالخطأ بتاتا، لكنّ ذلك التلاعب يجعلنا نعترف بأكثر من كوننا مخطئين، سمّه تلاعبا أو سمّه نفاقا، ربما كان تملّقا أو كان استرزاقا! لكنّ ذلك المحاضر يوم قال قولته تلك كان يعلم مغزاها جيدا ولهذا جعلها مقدّمة لموضوع طرحه. طرحه الراقي الذي يفتح نوافذ العقول لاستيعاب ما سيقوله لها! سنرتقي إذاً عندما نرتقي بأساليب أحاديثنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.