شعار قسم مدونات

تحت عيون الغرب.. هل هناك علاقة بين الدراسات النسوية والخطاب الاستعماري؟

BLOGS حجاب

أحاول من خلال هذه المراجعة أن أطّلع على الأوجه المركبة والمعقدة لسرديات النسوية الجنوبية من خلال نص للمناضلة الهندية شاندرا موهانتي، ترجمته د. سهام عبد السلام، بعد أن قمت كما المفترض أن تقوم به النسوية الغربية تجاه النسويات الأخرى، بلبس عدسة أو نظارة شفّافة، ولكن "نسائية" في لونها وتصميمها، حتى أتمكن من "محاولة" رؤية المشهد من الداخل، على الرغم من تنبهي لفخ التحدث باسم الآخر وإشكالية الخوض في شؤون المرأة والانزلاق الى شرك التصنيفات، وقناعتي أيضا بمحدودية إبصار ما يُبصره وشعور ما يَشعره الآخر المختلف لا "المتضاد" بيولوجيا وثقافيا وأيدولوجيا، وذلك لاختلاف الخصائص والمواقع والظروف والسياقات وغيرها من الاعتبارات.

تقوم الحجة الرئيسية للكاتبة على ضرورة تجاوز جانب من الفكر الماركسي المرتبط ب تمثيل من ليس بوسعهم تمثيل أنفسهم، وتشير في ذلك إلى هيمنة الخطاب الاستعماري، النسوي الغربي، ذو الدلالة السياسية والاقتصادية، واختزاله "النسويات غير الغربية"، وتركز بشكل أدق على النمط المتمثل ب"انتحال" و"تشفير" فئات تحليلية معينة للكتابات والدراسات التي تتعلق بالنساء في العالم الثالث وادعاء "المعرفة" بهنّ. وتَعتبر بأن تحليل التفسير الخطابي الذي تصوره النسوية الغربية عن نساء العالم الثالث يمكن اعتباره خطوة أولى نحو مشروع آن أوانه، وهو صياغة استراتيجيات نسوية مستقلة من الناحية الجغرافية والثقافية والتاريخية. ولهذا السبب تركز الكاتبة في مقالها على تحليل "منتجات" أدبية نسوية غربية تم التعاطي من خلالها مع نساء العالم الثالث على أساس أنهن موضوعا واحدا وكتلة خرساء لا لسان لها ولا خصوصيات.

النساء بوصفهن فئة للتحليل

تحاول موهانتي تسليط الضوء على مسألة مركزية تتعلق بالوعي الذاتي الناقص لدى النسوية الغربية لا سيما حين تفترض وجود عمومية "مائزة" وتمارس اختزالية متمركزة حول عرق بذاته وتجهل أو تتجاهل تأثير الدراسات الغربية على العالم الثالث ونسائه في ظل نظام عالمي يهيمن عليه الغرب، فهي بالتالي "تستعمر" بدلا من أن "تستثمر" أوجه التنوع المادي والتاريخي لحياة نساء العالم الثالث، وترسم أو ترسّخ صورة واحدة متخيلة وثابتة عن امرأة ذلك العالم. واعتقدُ في هذا الخصوص، أن القهر الذي تمارسه النسوية الغربية على نساء العالم الثالث من خلال ما سبق لا يقل أذاه عن ذلك الذي قامت بسببه الحركات النسوية عموما، فالقهر يمارس عليهن مرتين، وعلى أكثر من مستوى: مستوى محلي ذكوري، وغربي استعماري، وغربي نسوي.

الكتابات النسوية الغربية قابلة للنقد أيضا فيما يتعلق بالمنهجية والأسلوب التحليلي "غير النقدي" و"الاختزالي" الذي تتبعه لتبيين أو إثبات قضية استغلال النساء وسيادة الذكور باعتبارها ظواهر كونية عابرة للثقافات

توجه موهانتي نقدها أثناء تحليلها لنصوص نسوية غربية صادرة عن دار زد للنشر، الى ثلاثة افتراضات تحليلية. الأول، يتعلق بالموقع الاستراتيجي "للنساء" كفئة للتحليل، واختلاف النوع وقابلية ذلك للتعميم على مستوى الكون والثقافات، انطلاقا من افتراض أن النساء هنّ جماعة مترابطة ومتماثلة في المصالح والرغبات بغض النظر اختلافاتهن العرقية والطبقية. والثاني، يتعلق بالمنهجية والأسلوب غير النقديين لإثبات الافتراض الأول، والثالث، هو المنحى السياسي لاستراتيجيات التحليل ومناهج البحث المعتمدة، وارتباطها بعلاقات القوة بين دول العالم الأول والثالث.

تخبرنا موهانتي بأن الإشكالية ليست في شعار "كلنا شقيقات في النضال" ، لأن فكرة التضامن والشعور بالاتحاد أمر جيد، إنما الإشكالية هي في الخلط القائم بين "الإجماع الخطابي" على تشابه النساء كجماعة وبين الاختلاف في الواقع المادي والتاريخي الخاص لجماعات النساء. وبالعودة الى الافتراض الأول، فإن موهانتي تركز على الطرق التي يستخدم فيها الخطاب النسوي الغربي النساء كفئة تحليلية "مفعول بها". وتقدم الكاتبة أمثلة عن الطرق التي يتم تصوير نساء العالم الثالث من خلالها على أنهنّ "جماعة متجانسة لا حول لها ولا قوة" وأنهنّ ضحايا لسياقات اجتماعية-اقتصادية-سياسية معينة، فهنّ حسب ما جاء في تلك الأمثلة إما ضحايا للعملية الاستعمارية، أو ضحايا لعملية التنمية الاقتصادية، أو ضحايا للعنف الذكوري، أو ضحايا للقواعد الدينية.

 

وتستشهد موهانتي بدراسة لجولييت مينسز، وهي دراسة وقعت فعلا في فخ التعميم فيما يتعلق بافتراض تطابق نظرة المجتمعات العربية والإسلامية بكليّتها للنساء، من غير إيلاء أي اعتبار للسياقات التاريخية والمادية والأيدولوجية التي تميز النساء في دول العالم العربي والإسلامي عن بعضها. وهذا باعتقادي نقد قوي لتعميم شائع كثيرا ما يتكرر بقصد أو بغير قصد، وبشكل مباشر أو غير مباشر في العديد من الدراسات النسوية الغربية.

التعميم المنهجي

تعتقد موهانتي أن الكتابات النسوية الغربية قابلة للنقد أيضا فيما يتعلق بالمنهجية والأسلوب التحليلي "غير النقدي" و"الاختزالي" الذي تتبعه لتبيين أو إثبات قضية استغلال النساء وسيادة الذكور باعتبارها ظواهر كونية عابرة للثقافات. وتقدم الكاتبة حججها من أكثر من زاوية، إحداها "المنهج الحسابي" القائم على العلاقة الإيجابية بين عدد النساء المرتديات للحجاب مقابل التحكم بهن وعزلهن عن الجنس الآخر.

undefined
المناضلة الهندية شاندرا موهانتي

فتلك الدراسات تتعامل مع عملية التحكم الجنسي بالنساء وكأنها حقيقة مسلّم بها مرتبطة بالبلدان التي تتحجب فيها النساء. والإشكالية الأخرى تتعلق بوضع بعض الدراسات الحجاب أو البردة بموازاة قضايا مختلفة تماما من حيث الطبيعة والمستوى، فتساويها مع أفعال الاغتصاب والدعارة القسرية والعنف المنزلي مثلا. وهذه إشكالية خطيرة باعتقادي، تعكس نظرة سطحية وجهلا أيدولوجيا وعدم موضوعية بحثية تشكك بنيّة وببُنية تلك الدراسات وتكشف أبعادها الملتبسة.

تكشف موهانتي أن النسوية الغربية تفترض في كتاباتها أن مفاهيم مثل مفاهيم الزواج والإنجاب والأسرة والنظام الأبوي وتقسيم العمل على أساس الجنس هي مفاهيم قابلة للتطبيق العام من غير تخصيص لسياقاتها الثقافية والتاريخية المحلية، ومن الممكن استخدامها لتقديم تعليلات لتدني مكانة النساء في العالم الثالث. فهنّ بالتالي يختزلن القدرة التفسيرية لبعض المفاهيم الى وجه واحد فقط نتيجة الخلط وعدم الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات التاريخية والتفسيرات المختلفة للأوضاع التي قد تبدو متشابهة. ما يؤدي بالتالي الى تكوين شعور مزيّف بالطابع المشترك لأشكال الاضطهاد والنضال النسوي عموما.

النسوية الغربية بعد أن حصلت على جزء جيد من حقوقها وأثبتت نفسها من خلال خطاب قوي ومهيمن وسرديات خاصة بها قد تفرغت لممارسة الاستعمار الثقافي لخصوصيات وخبرات النساء غير الغربيات
النسوية الغربية بعد أن حصلت على جزء جيد من حقوقها وأثبتت نفسها من خلال خطاب قوي ومهيمن وسرديات خاصة بها قد تفرغت لممارسة الاستعمار الثقافي لخصوصيات وخبرات النساء غير الغربيات
 
الذات الفاعلة للقوة

تتطرق موهانتي أخيرا الى المنحى السياسي لاستراتيجيات التحليل ومناهج البحث المعتمدة لدى النسوية الغربية. وترى بأن استعمار المواقع المتنوعة لنساء العالم الثالث على مستوى الطبقة الاجتماعية والأطر العرقية وانتحالها من قبل النسوية الغربية هو في الحقيقة سلب لما يمتلكن فعلا من قدرات على الفعل والتأثير تاريخيا وسياسيا. وتعتقد بأن من أخطر ما يمكن أن يؤدي اليه التعميم المتمحور حول عرق معين هو الحكم على هياكله القانونية والاقتصادية والدينية والأسرية على أساس المعايير الغربية، ما يعني ضمنا تعريف تلك الهياكل على أنها "نامية" و"مختلفة" على أضعف تقدير، وتصبح تلك القضية إشكالية مركبة حين تُسقط النساء في دائرتها وتُنتج تلك الصورة مخيفة التركيب عن امرأة العالم الثالث، المضطهدة، والمقهورية جنسيا، وغير التقدمية، والتقليدية، والقاصرة قانونيا، والأميّة، وسيدة البيت، والمطيعة والثورية.

 

وما يزيد الأمر سوءا هو إهمال النسوية الغربية ذكر أي إشارة الى قضية "الارتباط بين تحولات القوة في العالم الأول والثالث". الأمر الذي يعزز في الواقع "الاستعمار الامبريالي الثقافي الغربي"، ويشبه الى حد ما النظرية الإنسانية الغربية، كمشروع سياسي وأيدولوجي يتضمن الاسترجاع الضروري لل "الشرق" و"المرأة" بكونهما آخَر أو بوصفهما هامشيين، لا سيما من منظور الهيمنة العلمية وعلى مستويي الانتاج والتوزيع الثقافي. وتختم الكاتبة بعبارات عميقة تعكس بعدا نضاليا مفعما بالإرادة والأمل، فتقول "أن المركز ليس هو من يقرر الهامش، بل الهامش، بكل أوجه قصوره هو الذي يقرر المركز".

الخاتمة

قدّمت تشاندرا موهانتي العديد من الأفكار النقدية والأطروحات الرصينة التي حاولتُ إعادة تقديم أكثر ما أثرّ بي منها. ومن أكثر ما أثار إعجابي، هو نقد موهانتي "للنسوية المختزٍلة لا العابرة للقوميات"، ودور العولمة وعلاقات القوة بين العالم الأول والثالث، في التأثير على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لدول ومجتمعات العالم الأول، وبالتالي تعميق الهوة داخل العلاقات التراتبية الهرمية كالطبقة الاجتماعية والنوع الاجتماعي داخل تلك المجتمعات. ما يعكس باعتقادي تقاعسا نسويا غربيا، على أقل تقدير، في لفت النظر الى تلك القضايا الكبرى والانطلاق منها للوقوف الى جانب "شقيقات النضال والقهر"، أو على الأقل مراجعة مناهج واستراتيجات إختزال "الآخر" عبر الخطاب وهضمه وتنميط نُسُقهِ وإسباغ صورة التجانس في خبراته.

 

واستمرار ذلك التقاعس يعني القبول مرة أخرى بتعمق الهوة لكن هذه المرة داخل هرم النسوية عموما والإصرار على ترسيخ الواقع المادي "لنساء الجنوب" وتضخيم معاناتهن وقهرهن النفسي والسياسي. وأختم بصورة ظلت تراود مخيلتي أثناء القراءة، وهو أن النسوية الغربية بعد أن حصلت -ولو نسبيا مقارنة مع غيرها- على جزء جيد من حقوقها وأثبتت نفسها من خلال خطاب قوي ومهيمن وسرديات خاصة بها قد تفرغت لممارسة دور أساسي موكل إليها وهو الاستعمار الثقافي لخصوصيات وخبرات النساء غير الغربيات ومناكفة النسوية الجنوبية الثائرة ضد هذا الاستعمار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.