شعار قسم مدونات

المفكر الفاشونيستا.. لا تنخدعوا بالمظاهر!

BLOGS لابتوب مواقع التواصل

يقول الكاتب الإنجليزي آلان ألكسندر ميلن: "عقول الدرجة الثالثة لا تشعر بالرضى إلا عندما تفكر كالأكثرية. عقول الدرجة الثانية لا تشعر بالرضى إلا عندما تفكر كالأقلية. عقول الدرجة الأولى لا تشعر بالرضى إلا عندما تفكر". وعليه فإنه من المهم جدا الالتفات إلى طبيعة الساحات الفكرية لشباب اليوم وما تحتضنه من تيارات وتوجهات وموضات.

 

أكتب هذه الأخيرة وأعنيها حرفيا، فإنه لا يخفى على أي منا نحن رواد مواقع التواصل الاجتماعي أن الموضة لم تعد صياغة تصطلح على عالم الأزياء والتبهرج فقط بل إنها تطال أيضا عالم الأفكار، سيبدو ذلك جليا حين تلقي نظرة خاطفة على منشورات شباب اليوم فتجدهم يتقمصون أفكارا معينة ويغيرون على إثرها ستايلات تفكيرهم وأحيانا ستايلات هندامهم أيضا فيفصلون فكرة فلان على قياس علان ويتباهون بـ"اللوك الفكري" تماما كما يفعل المدللون حين يشترون قطعة من ماركة عالمية وتراهم يضعونها في الواجهة كي تلفت أنباه العابرين.

 

مقالي هذا عن العقول من الدرجة الثانية والثالثة، التابعون المقتدون دون تفكير ولا تمحيص، المعجبون بأي تفكير يطرح أمامهم ويدغدغ مكامن نقصهم فيتبنونه دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الشك والبحث، أما العقول من الدرجة الأولى فإنها تفكر وتفكيرها نابع من الذات مميز مختلف وليس متشبها لا بأقلية ولا أكثرية، مقالي هذا عن الفاشيونيستات الفكرية على وجه الخصوص.

الكثيرون ممن ألحدوا عن سبق بحث وترصد سرعان ما عادوا للإيمان بوجود الله لأنهم اقتنعوا أنه من الحماقة أن يكون هذا الكون والإبداع في أصغر تفاصيله إلى أكبرها من صنع العدم

من الفاشيونيستات الفكرية البارزة جدا مؤخرا والذين لفتوا انتباهي ولا شك أنهم لفتوا انتباه الكثيرين أيضا، حدث وقابلتهم أحيانا في محيطي وأحيانا على شبكات التواصل الاجتماعي، المعتنقين عقيدة الإلحاد أو الملمحين لها دون إعلان كامل، أغلب من قابلتهم كانوا في العشرينات أو في أواخر سن المراهقة، تجدهم غالبا على هيئات متشابهة، ينشرون اقتباسات من كتب لم يقرؤوها ومنشورات استهتارية للاستهزاء بوجود الله وبالمعتقدات الدينية الأخرى، تجدهم في الكليات والثانويات بلوك غربي، وأحيانا كثيرة فتيات يخلعن حجابهن ويعلن تمردهن.

 

يعاب على هذه الأشكال من الفاشيونيستات أنهم قليلي العلم والقراءة، واعتناقهم للإلحاد جاء نتيجة لعاملين أساسيين أولهم هو الثغرات في تربيتهم الدينية التقليدية التي نشأت على الوراثة لا الإيمان بالعقل والقلب والإدراك الكامل لطبيعة دينهم وتفاصيله، وثانيهم هو كون إلحادهم مجرد تسربات لأفكار براقة سمعوها من أحد ما أو وجدوها على الإنترنت مرت من خلال تلك الثغرات والثقوب فكونت ملحدين مدهوشين أحبوا الفكرة فاعتنقوها لأنها ستجعلهم يبدون متفتحين لا أقل ولا أكثر، فيستهتر هذا بمعتقد ذاك وتخلع هذه حجابها وتضع على صفحتها عبارات مشحونة بالدعوة إلى التحرر والتمرد، وإني لا ألومهم بقدر ما أشفق عليهم، لأنهن لو علمن غاية الحجاب وأسبابه لما خلعنه ولأنهم لو كلفوا أنفسهم عناء الشك في الفكرة والبحث عنها ولو من باب التأكد منها لما صاروا إلى ما صاروا عليه، ولكنه الإيمان الهش لا بد أن يسرف عن إلحاد هش أيضا.

هؤلاء إذا ألحدوا صار شعارهم التمرد والتحرر والخروج عن المألوف، فقط أفسحوا لهم الطريق ولا تتعجب من لغتهم العربية الركيكة -مما لاحظته أيضا في منشوراتهم- حين يفحمونك بأدلتهم الدامغة ويستهترون ويستهزؤون بطريقة ستفقع مرارتك من شدة الضحك على منصات التواصل، ولا تأخذنك بهم الرأفة أن تناقشهم فوالله ستخرج خاسرا حتى لو كنت ملحدا مثلهم لأنهم ببساطة يجهلون، يجهلون الكثير في أساسيات ما يعتقدون به.

 

تماما كما يوجد متطرفين في كل عقيدة هؤلاء يعتبرون متطرفي الملحدين أيضا لأنهم من فرط عشقهم لوهم التفتح والتحرر الذي يتموضعون فيه بذريعة الإلحاد لا يتركون الفرصة للنقاش البناء لأنهم يفتقرون لتقنياته، ولا عجب في هذا فما بني على سراب دائما يكون على هذه الشاكلة، تماما كما يفعل أصحاب العقائد الأخرى التي بنيت على إيمان هش لا حضور للعقل فيه ولا للمنطق، إما تجدهم متزمتين متشددين يختلط عليهم الدين بالخرافة فيهذون، أو تتسرب قشور الحداثة إلى هشاشة إيمانهم فيصبحون فاشيونيستات أيضا، لأنه الجهل ما زاحم فكرا حتى قلبه سما مقرفا، كما قال علي شريعتي: "عندما تكون العقيدة سطحية ويكون الإيمان سطحيا، فسرعان ما تتحول هاتان الميزتان إلى ضيق الأفق وتبعية عمياء للخرافة، وتصبحان حجرة عثرة أمام الجميع".

ضرورة البحث عن جوهر الفكرة وغاياتها وتاريخها وأصلها وفصلها ومقارنتها مع نظيراتها من الأفكار قبل أن تزفها لعقلك وكيانك، فالفكرة تشكل نمط تفكيرك ونمط تفكيرك يشكل نمط حياتك
ضرورة البحث عن جوهر الفكرة وغاياتها وتاريخها وأصلها وفصلها ومقارنتها مع نظيراتها من الأفكار قبل أن تزفها لعقلك وكيانك، فالفكرة تشكل نمط تفكيرك ونمط تفكيرك يشكل نمط حياتك
 

إن ذمي لهذه الفئة ما كان ذما من أجل الذم البتة، فإنه والله يحز في قلبي أن أشاهد أعدادهم تتضاعف وصبيانيتهم تنتشر وباطلهم بني على باطل، فإني أتقبل وبصدر رحب ملحدا قضى ليال وليال يفكك رموز العلم ويغوص في مجلداته ويتأمل ويقرأ كتب الديانات كاملة ويقارن ويتمحص ويتشبع بقراءة الكتب ودراسة السلوك البشري وأساليب النقاش فينتقل تدريجيا إلى اللادينية ثم اللإلحاد، لا يزعجني البتة أن يلحد أحدهم على هذه الشاكلة لأنه على الأقل يشغل عقله ويشك في كل شيء قبل أن يؤمن به بل إن هؤلاء بأدمغتهم اللامتكاسلة عن البحث وفطرتهم يهتدون إلى الصواب.

 

فالكثيرون ممن ألحدوا عن سبق بحث وترصد سرعان ما عادوا للإيمان بوجود الله لأنهم اقتنعوا أنه من الحماقة أن يكون هذا الكون من أصغر ذرة إلى تشكيل أجسامهم ودقة المسافات بين الكواكب والنجوم والإبداع في أصغر التفاصيل إلى أكبرها صنع العدم وخذ مثالا عن هذا أشهر ملاحدة التاريخ أنطوني جيرارد نيوتن فلو، والبروفيسور جيفري لانج والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي وكثيرون آخرون، وإني بهذا رغم تحيزي للإسلام كوني مسلمة وإيمانا مني بحرية الاعتقاد وأن ديني يحترم العقائد الأخرى أيا كانت لست أدافع عن الاسلام لأنه في غنى عن ذلك ولست أقدح في الإلحاد وإنما في من يعتنقه فقط ليثبت ذاته ويظهر مظهر المتفتح السائر عكس التيار.

أخيرا فإن رسالتي التي أتمنى أن تصل ذهن كل من يقرأ مقالتي هي ضرورة البحث عن جوهر الفكرة وغاياتها وتاريخها وأصلها وفصلها ومقارنتها مع نظيراتها من الأفكار قبل أن تزفها لعقلك وكيانك، فالفكرة تشكل نمط تفكيرك ونمط تفكيرك يشكل نمط حياتك، لذلك فإنه من الذل والخزي أن تهدر نمط حياتك بأكمله في اعتناق فكرة فقط لتبدو جذابا أو متفتحا أو لتصبح فاشيونيستا فكري وتجلب اللايكات ومباركات الآخرين، فأحيانا من شدة حرصك على التهرب من الظهور في ثوب المتخلف أو القديم الطراز تصبح كذلك تماما. فلتذهب للجحيم كل فكرة تجذبك فقط لتتشبه بأقلية أو أكثرية، الأصح هو أن تفكر لنفسك وتشغل دماغك ولا تنخدع بمظاهر الأفكار بل تبحث عن بواطنها، فالإنسان الحر لا يفعل فعلة إرضاء للناس أو تيمنا بهم بل يفعله لأنه اقتنع حتى النخاع أنها الصواب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.