شعار قسم مدونات

غريزة البقاء.. لماذا يريد الإنسان أن يعيش؟

blogs تأمل

كانت الحياة قد خرجت منه ولم يبقَ إلا أن يخرج هو منها، ولكن قبل أن يلقي نفسه من على حافة الجبل، رأى فراشة صغيرة تطير بجانبه ذات ألوان زاهية، فتذكر طفلته الصغيرة التي تحب الفراشات، تذكر لهفتها ذات مرة عندما ركضت خلف إحدى الفراشات محاولة أن تمسك بها، فامتعض قلبه واربدّ وجهه وتخدرت أطرافه، تقطرت من عينيه جمرات ساخنة، عاد إلى سيارته وانطلق منتحباً.

ذلك هو إحدى الأمثلة التقليدية لانتصار إرادة الحياة على الموت، منذ أن كان الأنسان وهو يريد أن يعيش، يريد أن يكمل هذه الحياة بكل آلامها وصعوباتها وخيباتها، يتشبث بالحياة بنواجذه ويريد أن يبقى حتى لو كان البقاء معاناة، حتى لو كان الأمل مفقوداً، حتى لو كانت فرص السعادة معدومة، فالمحكوم بالإعدام مثلاً يفرح أيما فرح إذا ما تم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد مع أن حياته اللاحقة ليست بالتأكيد الحياة التي لطالما نشدها، ويتجلى تشبث الإنسان في الحياة عندما يبذل الغالي والنفيس في محاربة بعض الأمراض بأن يخضع لعلاجات دوائية أو تدخلات جراحية كي يزيد من فرص زيادة حياته سنة أو اثنتين وفي بعض الأحيان عدة شهور فقط! وليس التصدي لهذا السؤال بالأمر السهل، بل هو مغامرة وقفزة كبيرة بحاجة إلى عتاد معرفي وفلسفي ونفسي لا أدعي أنني أملكه، لكن كل ما أريد أن أفعله هو أن أحاول أن أضيء السؤال فقط.

كنت لا زلت أعمل في قسم الأمراض الباطنية عندما طلب مني أحد زملائي أن أقنع أحد المرضى أن يتم تركيب أنبوب لتصريف السوائل من بطنه، كان شيخاً وقوراً كبيراً في العمر تسبب ضعف عضلة القلب لديه في تجمع السوائل في كل أنحاء جسمه، كان رافضاً لذلك الإجراء تماماً ويعتذر بأسلوب مهذب دون أن يبدي سبب رفضه، وبعد عدة محاولات قال لي كلمة أنهت النقاش، قال بما معناه: يا بني أريد أن أموت وأنا أنيق، في تلك اللحظة يبدو أنه هو الذي أقنعني، تمنيت له الخير وخرجت، إذن فالأمر ليس بقاءً فحسب، ففي تلك اللحظة بالذات بدا وجوده أكبر وأعمق من حياته، كانت لديه اعتبارات تفوق مجرد زيادة عدد سنوات العمر، بدا أنه انتصر على غريزة البقاء لصالح احترامه لذاته.

غريزة البقاء هي إحدى مفارقات العقل أمام حتمية الموت، وكما يقال أن العقل ليس خالصاً فهو مشوش عاطفياً، وفي هذا المزج التجريدي والعاطفي لا يزال الإنسان يريد البقاء بشكل مدهش يدعو للتساؤل

من وجهة نظر تطورية يمكن تفسير الأمر بطريقة سلبية بالقول أن الإنسان يريد البقاء لأنه لو لم يكن كذلك لما كان موجوداً اليوم، فعلى مدى سنوات طويلة تم انتخاب الجينات التي تؤدي بالإنسان إلى البقاء وتم استثناء تلك التي تؤدي به نحو الفناء، وفي هذا دخول إلى الفكرة من بابها الخلفي ومعالجة للنتائج بالنظر إليها بشكل مفرغ من مضمونها، إنه قبول النتائج كما هي على أنها الحلقة الأولى والأخيرة في السلسلة المعرفية، وأرى في هذا سلبية كبيرة لا تروي شغف الإنسان في الوصول إلى معنىً غائي يكتنف وجوده.

أما من وجهة نظر نفسية فيرى فرويد أن لدى الإنسان غريزتين هما غريزة الحياة وغريزة الموت وأنه يبقى دوماً في صراع دائم بينهما، وفي هذا تأجيل للسؤال خطوة واحدة إلى الأمام فقط فيصبح: لماذا تنتصر غالباً غريزة البقاء على غريزة الموت؟ فالغالب الأعمّ هو أن نعيش لا أن ننتحر! ولا بد هنا من الحديث عن الانتحار، فهو الضفة المقابلة، وحيث أن سعي الإنسان للبقاء هو الأساس، يُنظر للانتحار على أنه حالة مَرَضية وعمل شاذ، فالإنسان يجب عليه أن يرغب في البقاء لا بل أن يدافع عن ذلك حتى لو كان في أسفل المنازل الإنسانية، لذلك فالبحث في غريزة البقاء لا بد أن يشتمل على بحث موسع ومطول في قضية الانتحار، فالكثير من الأفكار تُدرس عن طريق البحث في نقيضها أولاً أو أن نستخدم النقيض كي نكشف دلالات الطرف الآخر ونحيط بها بشكل جيد.

 

وكعادة العلم الغربي اليوم القائم على المادة يتم اختزال الانتحار على أنه عرض لمرض نفسي هو في صورته النموذجية الاكتئاب، ويتم تفسير الاكتئاب على أنه نتاج لاختلالات كهربائية وكيميائية في الدماغ أبرزها نقص ناقل عصبي يدعى السيروتونين، ولكن هل الأمر بهذه البساطة فقط؟ على ما يبدو لا، تُرى ما هو شكل الحياة في داخل المنتحر في تلك اللحظة الحاسمة التي أقدم فيها على إنهاء حياته؟ وما الذي حدث لغريزة البقاء في تلك اللحظة؟ لا بد من دراسة الأمر بلا تعصب دوغمائي ولا تشنج عقائدي بل بطريقة علمية صرفة تهدف إلى البحث واستخراج الدلالات.

أما من وجهة نظر دينية فالأمر واضح ومباشر، فالله سبحانه وتعالى هو من فطر الإنسان على حب الحياة، ولولا ذلك لما كان الإنسان قابلاً لإعمار الأرض والسعي فيها والتكاثر عليها، ولولا تلك المعجزة النفسية التي تقوى بالإنسان على تجاهل فكرة الموت لما استطاع أن يعيش يوماً واحدا.ً يقول أدونيس: "الحياة امرأة حبلى بالموت، ومن لا يشعر في داخله بالموت لا يمكنه أن يشعر بالحياة". إن مواجهة الإنسان لفكرة الموت تمثل إحدى محاولات وعيه للقفز خارج حدود عقله، وربما لذلك سعى عبد الرحمن بدوي لتأسيس مذهباً عاماً في الوجود على أساس مشكلة الموت، وغريزة البقاء هي إحدى مفارقات العقل أمام حتمية الموت، وكما يقال أن العقل ليس خالصاً فهو مشوش عاطفياً، وفي هذا المزج التجريدي والعاطفي لا يزال الإنسان يريد البقاء بشكل مدهش يدعو للتساؤل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.