شعار قسم مدونات

بين برنامج العلم والإيمان وبرنامج الدحيح

الدحيح

لا أذكر في أي يوم بالتحديد كان موعد ذلك البرنامج، لكني الذي أذكره جيدًا هو اجتماعنا كأعضاء الأسرة والتفافنا حول التلفاز، ننتظر بدء البرنامج، بداية البرنامج كانت بناي عميق يأتي من بعيد، ثم يعلو ويأخذك إلى فضاءات علوية، كأنه يحدثك عن الكون ونشأته وما فيه من أسرار وعجائب، فكانت مقدمة البرنامج هي برنامج آخر، ثم بعد ذلك يظهر الدكتور مصطفى محمود وهو يدخل في الكلام مباشرة دون مقدمات، نبرته الهادئة، وخشوعنا جميعًا ونحن نشاهد هذا البرنامج.

 

كانت سمة العصر آنذاك، يتحدث الدكتور في كل شيء، وهدفه كان واضحًا هو التأمل في هذا الكون، والتفكر في عجائبه، إعمال العقل ووضعه في مكانه، ثم العمل بناء عليه، بعد أن ينتهي من كلامه يأتي دور الفيديو مشفوعًا بتعليقات الدكتور الظريفة والخفيفة، حاجة عجيبة خالص، سبحان الله، ونحن نتابع كل هذا بدهشة وانبهار شديد، كانت مثل هذه الفيديوهات شيئا ليس متاحًا في ذلك الزمان، فلم يكن يوجد يوتيوب ولا فيديوهات قصيرة على الفيسبوك، أو قنوات متخصصة في بث الأفلام الوثائقية التي تبحث في هذا الكون العظيم.

بدأ البرنامج سنة 1971 واستمر حتى 1997 م حتى حفر في وجداننا وأذهاننا نقوشا لا تزال باقية إلى اليوم، كان البرنامج بالنسبة لنا غريبًا أيضًا، أذكر ذات مرة بل مرات، كنا ونحن جالسون مع إخوتي نتبادل الحديث، قال لي أحد إخوتي: إن الدكتور مصطفى محمود ألحدَ وترك الإسلام ثم عاد مرة أخرى، ومرة أخرى قيل: إن هذا الرجل قد جًنَّ، فالإنسان منا إذا تعمّق في العلم في لحظة ما يتحوّل إلى شخص مجنون، هكذا كان رأينا. كأنما هذه الأقوال تنطوي بداخلها على خوفٍ مما نراه غريبًا، أو في عبارة أبسط كما يقال دائمًا الإنسان عدو ما يجهل، وهل الإنسان إذا تعمّق في العلم يصبح إيمانه هشّا أو قد يلحد، وهل هناك شعرة أيضًا بين العلم والعبقرية.

برنامج الدحيح هو التطور الطبيعي للبرنامج العظيم الذي كان يذيعه العظيم الدكتور مصطفى محمود، ولو كان الدكتور مصطفى محمود حيًّا لأعجب كثيرًا بالشاب صاحب البرنامج

ظهر في هذه الشهور أحد الشباب المميزين، ببرنامج جديد مبتكر اسمه الدّحيح، وتسمية البرنامج تسمية قريبة من الأذهان لنا جميعًا، فنحن حينما كنا في المدرسة، كنا نستعمل لفظ دحّ أو بيدحّ يعني أن هذا الشاب يذاكر، ولإيماني العميق بأن لغتنا العامية هذه التي نتحدث بها ليست لغة لقيطة، بل هي بلا شك ابنة اللغة الفصحى المتطورة وقد تأثرت بعوامل أخرى كثيرة، لقد ذهبت إلى القاموس كي أجد مادة دحح، يقول في الصحاح: دَحَحْتُ الشيءَ في الأرضِ، إذا دسستَه فيها. وانْدَحَّ بَطْنُه انْدِحاحاً: اتَّسَعَ. قال أَعْرابيٌّ: مُطِرْنا لليلتين بَقِيَتا فَانْدَحَّتِ الأرضُ كَلأً.

على أي حال فتسمية البرنامج هي تسمية شبابية قريبة جدًا منا، فصاحب البرنامج رجل دحيح يذاكر الليل والنهار، أما عن العرض فهو عرض جديد هو ليس مبتكر، لأن سمة العصر الذي نحن فيه أصبحت هكذا لكنه جذاب جدا، الموضوعات التي يتناولها الدحيح هي موضوعات علمية جذابة غريبة ليست مشهورة عند الناس، أو مشهورة لكنها مصحوبة بفهم خاطئ أو على الأقل بالنسبة لمقدم البرنامج هو فهم يستحق أن يُراجَع فيه صاحبه مرة أخرى.

نحن الآن في عصر السرعة والمعلومة الخفيفة الظريفة الخطّافة والجذابة، ولقد تنبّه إلى هذا الشّاب أحمد الغندور، فهو ابن من أبناء هذا الجيل جيل السرعة، لا يوجد ناي كناي الدكتور مصطفى محمود الذي يمكث ما يقارب الخمس دقائق، فالخمس دقائق هي تقريبا كل البرنامج، بل موسيقى البرنامج هي موسيقى سريعة أيضًا وخطّافة، تساعد المشاهد على إبقائه مشدوهًا منجذبا بما يُعرض أمامه، أما المقدّم نفسه، فبمصريّته التي أهّلته كي يكون خفيف الظل ظريفًا، وبدحّه ومذاكرته، وبطريقة عرضه، استطاع أن يقدّم شيئا مميزًا في هذا العصر الذي يصعب فيه التميّز، لا سيما في العالم الأزرق المسمى بالفيسبوك، لقد كان برنامج الدكتور مصطفى محمود وحده في الميدان آنذاك، وكان رائدًا، أما الدّحيح فهو وسط منافسين شرسين.

الإنسان بطبيعته إذا رأى شيئًا يميل إلى إصدار حكمٍ عليه بسرعة، وهذا الحكم للإنسان يكون بالنسبة له نتيجة يغلق بها الطريق أمام عقله وتفكيره، فلا يرهق في التفكير في هذا الأمر، ولا يتعب نفسه فيه، بل إذا رأى الأمر فيقول هذا جيد أو هذا سيئ وانتهي الأمر، أما القليل من الناس هو من يتريّث في إصدار الحكم والتفكير، أضف إلى ما سبق أن مجتمعاتنا مع أنها مليئة بمثل ما سبق، فإن الأمر يكون مصحوبا بسوء الظن، وسوء الظن أيضًا يؤدى إلى تحقير وتصغير من أمامنا، وفي الحقيقة هذا شيء جميل ولذيذ لصاحبه، فإذا كان الإنسان ملتزما محافظا متدينا مثلا ورأى أحدh لا يلتزم بمثل ما التزم به، داخله عجب وفخر في نفسه، كما ينظر إلى من أمامه بنظرة فيها تحقير وتصغير، ذلك لأنه لم يلتزم بمثل ما التزم به.

نعود مرة أخرى إلى الدّحيح، لقد صار حول البرنامج بعض اللغظ والاتهامات المعتمدة على شبه وظنون، أنا أعترف كما يعترف كثير من الناس بأن برنامج الدحيح هو برنامج مفيد وجاذب بالنسبة لي، لم يتكبّر الإنسان على ما يجهله؟! إن الأمر الذي ينبغي أن يفهمه متديوننا قبل أي أحد، أن الدين ليس أمرًا هشا لهذه الدرجة، وأن العلم ليس مضادا للدين على أي حال، وأن العلم لا حدود له، لا حدود له، وأن الدين يأمر بالعلم، وأن الطبيب الذي تذهب إليه فيكشف عليك ويعطيك الدواء المناسب دون أن يذكر آية أو حديث، قد فعل ما عليه وما يقول به الدين، وكذلك الإنسان الذي يبحث في الفيزياء أو الكيمياء بحثًا حرا دون أن يدخل في أمور فقهية أو دينية، قد فعل أيضًا ما يجب عليه في الدين، أما نقف بشبهة وظن في أي أحد حينما يتحدث في العلم، كي نظهر له الحكم السريع، هل هو كافر أم فاسق أو مؤمن، فهذا ليس من الدين، ولماذا الحكم من أساسه، إن الرجل يعطينا معلومات جديدة بالنسبة لنا، ينقّي آذاننا بشيء مفيد، فلماذا أنا أرفض هذه المعلومات لمجرد أنني أجهلها، ليس هذا هو الدين.

إن التخصص هو أحد ركائز أي نهضة تحدث للأمم، والموضوعية هو شيء أساس أيضًا، فإذا كان هناك رجل رياضي يتحدث عن الرياضة البحتة ويشرح لنا، ونحن لا نعرف شيئا عن الرياضة البحتة فلا نملك إلا أن نسلم فنحن جهلة بهذا، أما الجلوس والاستماع استماع المتربِّص كي يقول كلمة هنا أو هناك وتُفهم هذه الكلمة بسوء الظن فهذا ليس من الأخلاق الحميدة، لا بد أن نفهم أننا إذا أردنا أن نغير قليلا من السبات العميق الذي نحن فيه كمجتمع لابد أن نشجع حركة البحث العلمي والدعوة إلى إعمال العقل قليلا بدلا من الدروشة.

أنا لا أقول إن ما يقوله الشاب في برنامجه كله صحيح، ولا أقول أيضًا إن كله خطأ، بل أقول إننا إذا أردنا أن ننقد البرنامج فلا بد أن يكون النقد علميا، والشاب حريص على أن يحيل المشاهد على مراجع ومصادر كي يعرف من أين أخذ معلوماته، ولغة الشاب ليست لغة جازمة هي لغة مريحة إلى حدًّ ما، يعني فكّر مرة أخرى، تأمّل فيما تحياه، انظر في العالم من حولك، لا تستمع ولا تؤمن لما كل أن يُقال لك، هذه إحدى الغايات. الخلاصة أنني أرى أن برنامج الدحيح هو التطور الطبيعي للبرنامج العظيم الذي كان يذيعه العظيم الدكتور مصطفى محمود، ولو كان الدكتور مصطفى محمود حيًّا لأعجب كثيرًا بالشاب صاحب البرنامج، وبظرافته وطرافته وطرحه للمعلومة، لا أنسى هنا أن أذكر أننا خرجنا ضد الدكتور مصطفى محمود، وقد فهمناه خطأ أيضًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.