شعار قسم مدونات

ميكافيللي.. أراد توحيد إيطاليا فأصبح ملهماً للطغاة

BLOGS ميكافيللي

من المعروف أن أولئك الذين يسعون إلى نيل رضا الأمراء يهدونهم أشياء يسعدون بها وعلى هذا الأساس نجد أن غالب الأمراء يقبلون هدايا تتمثل في الجياد الأصيلة أو الأسلحة الثمينة أو الأحجار الكريمة وما شابهها من تحف تليق بمكانتهم العظيمة. على هذا الأساس ميكافيللي لم يجد أغلي من معرفته بإنجازات العظماء وأسباب تفوقهم ليهدي الأمير "لورنزو" ما توصل إليه من نتائج في كتاب أسماه "الأمير" آملا أن تتوحد إيطاليا على يديه ويُنعم عليه الأمير بمنصب في دولة أحلامه. إلا أن كتاب الأمير تجاوز ما يصبو إليه ميكافيللي بكثير وأكسبه سمعة سيئة للغاية لدرجة أن نعته المؤرخون بـ "أستاذ الشر" واكد شكسبير على ذلك في مسرحية "زوجات وندسور المرحات" على لسان إحدى شخصياته: ماذا هل أنا مخادع.. هل أنا ميكافيللي؟

لكن كيف ألهم كتاب "الأمير" الطغاة والجبابرة منذ القرن السادس عشر مرورا بحقبة هتلر وموسيليني الذي أُشيع عنه أنه اختار هذا الكتاب موضوعا لرسالة الدكتوراه! ووصولا إلى طغاة عصرنا هذا الذين تتلمذوا على الفكر الميكافيللي ويطبقونه بحذافيره على شعوبهم. ميكافيللي اشتهر في عالمنا العربي بنظرية "الغاية تبرر الوسيلة" التي تجرد الانتهازية في أخس صوره لها ووردت هذه العبارة تحديدا في الفصل الثامن عشر من ذات الكتاب. دافع ميكافيللي في كتابه عن نهجه شارحا بالتفصيل المكثف العميق أساليب سيطرة الحكام على الشعوب. حيث استنتج أن على الأمير أن لا يعبأ بأن يوصف بالشدة ما دامت هذه الشدة من أجل الحفاظ على مواطنيه وولائهم له، فالحريات هنا تعتبر مسألة فردية صغيرة لا مانع من انتهاكها إذا ما أردنا الحفاظ على وحدة وتماسك البلاد. فمن يصبح حاكم لمدينة حرة ولا يدمرها فليتوقع أن تقضي عليه لإنها ستجد دائما الدافع للتمرد باسم الحرية وباسم أحوالها القديمة ومثال ذلك فقد الإسبارطيون السيطرة على أثينا، بينما خرب الرومان قرطاجنة من أجل السيطرة عليها فلم يفقدوها.

مكيافيللي لا يتصور الأمير كرجل لديه مسؤوليات كثيرة، بل مسؤوليته الوحيدة هي ضمان استقرار الدولة التي يحكمها فينبغي أن لا تكون له غاية أو فكرة سوى الحرب وطرق تنظيمها، وإلا يتخذ لدراسته موضوعا آخر سواها

نصح ميكافيللي الأمير بالقضاء على معارضيه واقتلاعهم من الجذور فلا تقوم لهم قائمة أبدا وبذلك يأمن انتقامهم ويجعلهم درس عملي للعامة بينما مجرد اقصائهم هو خطر يتهدد الحكم ووحدة الدولة لأن وجودهم كافي بخلق جو من البلبة وفكرهم يدفع إلى المقاومة وبها لن تنعم البلاد برائحة الاستقرار. ميكافيللي برر هذا البطش الذي ينادي به ذاكرا أننا قد نتعجب بأن الأعمال الصالحة قد تجلب الكراهية، مثلا إذا تحدثنا عن الإسكندر الذي كان طيباً لدرجة أن العامة اعتبروه مخنثاً لأنه لم يعدم أحداً خلال الأربع عشرة سنة التي قضاها في الحكم دون إجراء محاكمة عادلة له! واعتبروه أنه أجاز لوالدته أن تسيطر عليه، فاحتقره الناس مما جعل الجيش يتآمر عليه ويقتله.

ميكافيللي ذكر أنه من الطبيعي أن جميع الأمراء يريدون الظهور بمظهر الرحمة لا القسوة، ولكن عليهم التأكد ألا يسيء استخدام هذه الرحمة. لا ينبغي على الأمير التردد في إظهار القسوة للإبقاء على رعاياه متحدين، لأنه بقسوته هذه هو أكثر رحمة من أولئك الذين يسمحون بظهور الفوضى بسبب لينهم، فالأضمن  للأمير أن يكون مهابًا على أن يكون محبوبًا.

المكر بالنسبة لميكافيللي يجب أن يكون أسلوب حياة معجون في كل شيء يفعله الأمير يُشعره بالمتعة عندما يخدع العامة ويُشعره بالمتعة المضاعفة عندما يخدع المخادعين. فهنا اعتبر المكر فضيلة الحكم وأورده في كل فصول كتابه فنجده يهمس لأميره بأن لا يحاول أبداً أن يكسب بالقوة ما يمكنه كسبه بالخداع، فالأمراء الذين حققوا أعمالا عظيمة هم من لم يصن العهد إلا قليلا. وعلى الأمير أن يتعلم المكر من الحيوانات المفترسة فيكون ثعلباً يتجنب الفخاخ وفي ذات الوقت يكون أسداً يخيف الذئاب ومن يريد أن يكون أسد فقط فهو لا يفهم الأمور جيدا. 

مكيافيللي لا يتصور الأمير كرجل لديه مسؤوليات كثيرة، بل مسؤوليته الوحيدة هي ضمان استقرار الدولة التي يحكمها فينبغي أن لا تكون له غاية أو فكرة سوى الحرب وطرق تنظيمها، وإلا يتخذ لدراسته موضوعا آخر سواها. فشتان بين رجل مسلح ورجل أعزل ومهما كان الأمر فلن نجد رجلاً مسلحا يطيع رجل أعزل وهو بكامل إرادته. النفاق خصلة من خصال الخطابة لدى ميكافيللي فعلى الأمير هنا التظاهر بالتدين، فالناس عامة يحكمون بما يرون بأعينهم أكثر مما يحكمون بما يلمسون بإيديهم، لأن الكل يستطيع أن يري ولكن قلة قليلة تستطيع أن تدرك ما أنت عليه. ميكافيللي تيقن واستوعب أن الصراع السياسي واستقرار الحكم لا يعترف بالقيم الأخلاقية ولا يستند إليها، فهل هناك من حكامنا من لا يتبنى فكره؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.