شعار قسم مدونات

من بين تشابه الأيام.. لا بد من لحظات فريدة

blogs - تركيا الجامع الجديد

خرجتُ من البيتِ وحيدةً مثقلةً بالهموم والمسؤوليات التي تتعاركُ في رأسي المنهك وكأنها الحرب، وأنا أتساءل في نفسي: يا تُرى ما الذي دعاني لآخذ هذه المادة عند ذلك الأستاذ والذي كان اسمه أيضاً "savaş" أي "حرب" باللغة التركية. فقد كان عليّ تقديم بحث عن جامع عريق في اسطنبول القديمة، والذي كانت ميزته بأن لديه بيوت وقصور صغيرة للطيور العابرة على أعالي جدرانه، حيث لم تفلح كل محاولاتي بإقناع إحدى الصديقات للذهاب معي.. عندها قررت أن أخوض تلك التجربة لوحدي لعل هنالك شيئاً جديداً يضاف لمخزون ذكرياتي.

وصلت لذلك المكان الذي اختطف قلبي لحظة نزولي من الحافلة، لأرى أمامي ذلك الجامع الذي احتل مكاناً ساحراً في قسطنطينية الفاتح والواقع على جنوب جسر غالاتا على ضفاف القرن الذهبي. إنه "الجامع الجديد" في منطقة "إيمينينو"، هناك حيث كان ولازال الأمان والحنان لكل طائر اسطنبولي أو ربما لكل طائر قادم من بلاد المهجر، تقاذفته الأمكنة فكان هذا الجامع ملاذاً له. في الحقيقة، إذا ما نظرت لهذا الجامع سترى بأنه ليس جديداً سوى أنه يجدد روحك، هذه التحفة المعمارية عرفت بهذا الاسم منذ القدم، حيث استغرق بناؤه أكثر من نصف قرن وذلك من عام 1597 حتى عام 1663م، والذي يعتبر النموذج الأخير للجوامع الكبيرة التي بنيت من قبل العائلة العثمانية.

تمشي في تلك المنطقة لترى اسطنبول في أجمل صورها، مشاعر هياجة تختلج الإنسان العابر بين رائحة عربات الكستناء وعربات الذرة الشهية ممزوجة برائحة الودق، تلك الرائحة كفيلة بحمايتك من برد الشتاء. تابعت مسيري بخطوات مثقلة حتى اقتربت من بوابة هذا الجامع العظيم، رفعت نظري للأعلى فإذا بمآذنه تقترب من عنان السماء، وقببه الساحرة تعكس روح المهندس المعماري الشهير سنان في ذلك العصر، حيث بني الجامع على يد أحد تلاميذه. دخلت إلى الجامع فإذا بالجسد ينتفض وكأنه قد لامس شيئاً ما أعاد لي توازن الروح والقلب والعقل والجسد، يدخل المغترب لهذا الجامع ليكون له حُضناً على قارعة الطريق، لقد كانت حشود المصلين تتوافد بشكل كبير إلى الجامع، والنساء قبل الرجال.

أخذت حقيبتي وأسرعت لأقرب حافلة شاكرة ذلك الأستاذ الذي أرغمني على الذهاب لشيء قد فقدته منذ زمن، وعدت إلى البيت لا شيء معي إلا الحب.

عندها أدركت أن ذلك اليوم المبارك كان يوم ذكرى ميلاد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، جلست بعد ذلك بجانب امرأة مسنة تستمع لخطبة الشيخ باللغة التركية والتي لم أفهم منها شيئاً سوى الشعور بالسكينة والسلام، عندها قررت أن أجلس قليلاً كما قال حكيم: "اجمع اللحظات، وليس الأشياء". عندما تخرج من هذه البوابة المباركة، يواجهك تمثالٌ لعجوز يبيع "السيميت" أي الكعك بالسمسم لطفل صغير يَعد نقوده، تمثالٌ يعبر عن بساطة وسعة العيش في ذاك الزمن.. تلتفت شمالاً لتلحق رائحة الماضي عبر عبورك لنافورة تنعش القلب الشجيّ، حتى ترى نفسك أمام سوق عريق شبيه بسوق اعتدت على الذهاب إليه في الشام العتيقة..

هناك حيث تتلعثم الشفاه وتتكلم الجراح، سترى سوقاً كسوق الحميدية، رائحته قريبة من رائحة الوطن إلى حد ما! وسترى وجوها أعجمية مندهشة، ووجوها عربيةً سعيدة لكنها ممزوجة ببعض الألم، هناك حيث تطاردنا الذكريات إلى المنافي. تماسكت قليلاً ولملمت شظايا نفسي المتبعثرة وخرجت من هذا السوق باتجاه البحر الجميل لعله يشاركني هواجس خواطري.. هناك حيث كانت تنسدل صنارات الصيادين عليه من على جسر غالاتا الشهير، يقترب الإنسان من الله أكثر عند مشاهدة خضم معركة الصياد مع السمكة، ويحاول أن يتلمس عمق وجودنا الإنساني من خلال الانتصارات والهزائم التي تأتينا سويةً حتى نتعلم كيف نواجه آلامنا مهما كان ذلك عصيباً.

أخذت أتأمل منظر الجامع والبحر والصيادين من زاوية ثلاثية منمقة من على مطل ساحر أشعل فيّ الحنين، وتذكرت أن الدار هنالك في وطني أطلال بلا أنيس غير ولولة الرياح.. هناك حيث غدت وصايا الراحلين إلى ربهم أحلى كلام، ولكن شعوري أخبرني أن هنالك ثمة أمل دوماً وأنه حتى في أسوأ الأزمات والمآسي يمكن لتصرف المرء أن يحول الفشل إلى انتصار وأن يمنح للحياة معنى. أخذت حقيبتي وأسرعت لأقرب حافلة شاكرة ذلك الأستاذ الذي أرغمني على الذهاب لشيء قد فقدته منذ زمن، وعدت إلى البيت لا شيء معي إلا الحب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.