شعار قسم مدونات

أي رياح عصفت بنا في 2018؟

blogs تخرج

تمضي سنوات عجاف على حياتنا فلا نتغيَّر ولا نُغيِّر، سنة تليها الأخرى على نفس النسق، ترنيمات متشابهة دون أن تتبدل النوتة فيصبح اللحن مملا، سئمت من سماعه الآذان. يرمي لنا القدر بعض الأحداث التي تُذبذب ترددات موجاتنا، أحداث تعترضنا ترفع النوتة إلى أعلاها وتكسر ذلك النسق الفارغ. ثم تشاء الإرادة أن تضيف للقدر، فنكتب على اللوح معا أياما لا ولن تُمحى، أحلاما سرقناها غصبا من ليل جميل وعشناها واقعا لتكون أجمل، صحيح أنَّها بقيت ذكرى، ولكنَّ تذكرة الطائرة المحفوظة بين صفحات وحي القلم، زهرة اسكودار الحمراء في المصحف الصغير، حقيبة السفر التي لا زالت تحمل ختم الجمارك، وبعض الصور. كل ذلك جعل الذكرى تبقى وترسخ وتترسخ. جعل الابتسامة ترتسم على الشفاه والقلب يحن.

لم تكن رحلة اسطنبول الرياح الوحيدة التي عصفت بحياتي في عام 2018، بل كان للتخرج النصيب الأجمل. هي ليست رياح عاصفة، بل نسمة جميلة حلت على أعوام جدٍّ. هي دمعة فرح توَّجت عامي هذا فأزهرته، نظرة فخر بَرقتْ في عيني والدي فطفلتهم الصغيرة تخرجت لتصبح طبيبة. عام آن للثمار فيه أن تقطف. صحيح أنَّني عايشت نشوة النجاح باختلاف أطوار الدراسة ولكن كان للتخرج مذاق خاص، لأن كل الذي مرَّ هو طريق عُبِّد للوصول للمكان المطلوب. كل سهر وكل تعب، كل ورقة وكل امتحانات خضناها كانت لأجل هاته اللحظة المنشودة، والهدف المرْجوِّ. قد نواصل الطريق بعدها لكنها ستظل دائما مرسى لنا هي شهادة اتعابنا ننطلق منها لنعود إليها.

ليس مجرد تخرج احتفلنا وكفى. وليست مذكرة مضافة إلى كومة الأوراق في مكتبة كليتنا. ولأن التميز والإحسان في العمل كانا كلماتا والدي التي شبَّ عقلي يسمعها، فجعل ذلك من تجربتنا تكون فريدة. كانت لنا الأسبقية في موضوع الدراسة في الجزائر كلها، وكما قلت سابقا فقد كتبنا والقدر أحداث هاته السنة، فشاء القدر أن يضع اسمي في عرض ملخص المذكرة بعد أنْ خططت نجاحها في اليوم الوطني للأبحاث العلمية. هي تجربة نوعية، ونقلة في مستوى تفكيري المنحصر على الشهادة وفقط. أنْ تقف أمام أساتذة دكاترة تشرح بشغف أبحاثك وتنال تصفيق إشادةٍ في الختام وكلمات شكرٍ تثلج الصدر وتكتب بحبر من ذهب هاته الوقفة التي ربما لن تتكرر يوما ولكن كان لنا شرف خوضها.

لا ننتظر من الأول من شهر يناير 2019 أن يكون عصا سندريلا السحرية ولا مصباح علي بابا الذي سيقلب حياتنا من فقر إلى غنى أو من سقم إلى صحة أو من تعاسة إلى بِشْر

ليت الشباب يعود يوما لأخبره بما فعل المشيب. قالها أجدادنا حسرةً على شباب مضى وأقولُ أنا ليت 2018 يعود ففراق الأحبة صعب على القلب شديد. لعل اسوء ما حمله التخرج هو انفصال قلوب تحابت في الله وكان دعاؤها الدائم اللهم إنَّ هاته القلوب قد اجتمعت على طاعتك…فوثق اللهم رابطتها وأدِم وُدَّها. رفاق درب التقينا على نفس الفكر، ربما عشنا بينهم وفيهم خلال الستِّ السنوات الماضية أكثر مما عشناه بين أهلِنا، فهم أصبحوا أهلَنا وبسمتنا، ويَعزُّ علينا فراق تلك البسمة. ولكن يبقى عزاؤنا أنْ نكون من بين الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.

  
قلوب طيبة لامست قلوبنا هذا العام بصفائها وجمالها فكان لنا الحظ أنْ التقينا وتقاطعت طرُقاتنا. لن ننسى طِيبةَ أخونا محمد الصحفي الغزاوي، أو كرمَ صديقنا التركي ضمرة. والصحبة الرائعة مع شقيقتيْنا المغربيَّتن خطيبة وجليلة، وتكتمل الرقة في الزوجين الفرنسيين المسلمين. فحاز 2018 الأفضلية بأنْ جمعنا بهم وأعثرنا عليهم.

شاء هذا العام أنْ لا يكتمل دون أنْ يختمها بمسك. لم تكن الدراسة يوما هوسي الوحيد ولست ممن يبقى أسير قيود فلا يعرف التحرك في غير حيزها. هكذا فلسفتي الحياتية فالحياة مجالات ولعل مرحلة شبابنا تفرض علينا أنْ تتربَّع الدراسة على عرش الأولويات. ولكنَّ ذلك لا ينفي طموحات جانبية تشاركنا المسير. هي رابطة الشباب الدعاة رشد. حلم طفولة بريء نشأ وأنا أُشاهد برامج الأستاذة نوارة هاشم وأتخيَّل بعقلي الصغير آنذاك ميمونة الداعية. كانت مسابقة الانتقاء ثم اختفى كل خبر حتى نسينا أنَّ هنالك منتقُون. لكن جاءت البشرى بعد أشهر، جاءت وشاءت أنْ تكون الآن حتى نبتسم ابتسامة رضى فالحمد لله الذي هدانا لهاذا وما كنَّا لنهتدي لولا ان هدانا الله.

ذاهبون لا تتعودوا، جِدارية في أحدِ شوارع اسطنبول استوقفتني مدة، خاطبتني آنذاك فالرحلة كانت على وشك الانتهاء. وتخاطبني الآن فدنيانا على وشك الانقضاء عام يتلوه عام وكما عُرفَ عصرنا بزمن السرعة، حيث لم نعدْ نستشعر الاشياء، لا كيف مرَّت ولا متى انتهت. ومضات حياةٍ ولكن هل حمَّلنا الزاد لحياة أبديةٍ خالدة.

انتهى 2018 ولم تنتهي نبضات القلب فيه. لم تكن بدايته نقطة تغيير ولا ننتظر من الأول من شهر يناير 2019 أن يكون عصا سندريلا السحرية ولا مصباح علي بابا الذي سيقلب حياتنا من فقر إلى غنى أو من سقم إلى صحة أو من تعاسة إلى بِشْر. لن نجد الفارس المنتظر ولا الوظيفة المثالية. هو مجرد عدد أضيف لسابقه. فأنقص زمنا من حياتنا. فإنْ نحن أردنا تغييرا فلنبدأه من أنفسنا من الداخل، ليس من داعٍ لانتظار بدايات رقمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.