شعار قسم مدونات

متلازمة الصفحة البيضاء.. حين يسوّد الأبيض وجه ورق الكتّاب!

BLOGS كتابة

ألقت "ماري" دفترا وقلما على يسارها ثمّ أسندت ظهرها ورأسها إلى الجدار ومدّدت ساقيها على السرير، لقد بدت كمن قضى يومه في العدو؛ خائرة القوى! كانت تحمل بيدها فنجان قهوة ساخن، حتى تلك الحواس الشغوفة المخصصة لارتشاف القهوة تلاشت، فأعصابها محترقة، لا المذاق طيّب ولا الرائحة فعلت فعلتها كالماضي؛ تلك التي ألهمتها مرارا وتكرارا لتفيض إبداعا، فكلّ شيء مملّ وجاف لحدّ يشعرها بالاختناق، لقد كانت بحاجة إلى "فنجان قوّة" على حدّ تعبير مريم نور؛ ساخن يحرّك النفس بالأفكار، يحلّيها بالحروف ويصبها في وعاء السطور.

كان السرير آخر الملاجئ، فلا المكتب استطاع أن يحتمل ذلك الركود ويكسر الرتابة، ولا الحديقة أمست قادرة على أن تقلّ ذلك الحجم من الكآبة، لا الأماكن الصاخبة بإمكانها أن تشعل أفكارها وترميها على الورق ولا هي الأماكن الهادئة. النفس صارت أشبه ببئر جاف كلما ألقت فيها بدلوها كلما عاد فارغا، حتى سّلة القمامة صارت تتصبّب ورقا! وكلما حضرتها فكرة بضجيجها، كلّما أعرض القلم وكلّما حاول القلم الزحف إلى أماكن أبعد على تلك الورقة تشنّجت عضلاته، بل الأمر أشبه بالشلل وأشبه بسكتة قلبية وأشبه بالعقم. هذا القلم لم يعد قادرا على تلقيح ورقة وبالتالي هي ليست قادرة على إنجاب نصّ ولا زالت تجهل ما الذي يمنعها عن حمل فكرة مثمرة وإنتاج سطر صالح! يا له من صمت قاتل هذا الذي يخيّم على الجميع؛ ماري؛ قلم؛ ودفتر..

"رهاب" الصفحة البيضاء وهو عبارة عن قلق يسيطر على الكاتب جرّاء الخوف من فقدان الإلهام وعدم القدرة على إيجاد كلمات وعبارات وأفكار لكتابه القادم

إنّها الورقة البيضاء تلك التي كان يخشاها "إرنست هيمنجواي" كما لم يخش ثورا هائجا، ووقفت في وجه "ستيفن كينغ" الذي لم يتوان عن بثّ روايات الرعب فيها، وعزلت قلم هنري روث لسنوات، وأجبرت كافكا على أن يغادرها في المنتصف وهو الذي لطالما اقتحمها بكتاباته الكابوسية وحشر بين سطورها مواضيع نفسية، وتحرّشت بالكثير من الأعمال الأدبية وغير الأدبية التي لم يصل بها كتابها إلى نهاية إلّا بعد عناء كبير كما حدث مع ستاينبيك يوم صبّ عليها جام غضبه وهو يحاول الوصول بعناقيد الغضب إلى النهاية كي تبقى وصمة في جبين المسؤولين عن الكساد العظيم!

هل سمعت يوما بمتلازمة الصفحة البيضاء؟

متلازمة الصفحة البيضاء أو متلازمة الصفحة أو الورقة الفارغة Blank Page Syndrome أو قفلة الكاتب Writer’s block كلها تصبّ في معنى واحد وإن كان مصطلح "قفلة الكاتب" الأكثر شيوعا من الناحية النفسية، لكنّها تشترك مع المتلازمة في الوصف نفسه؛ وهناك من يرى أن الفرق بينهما يكمن في عدم القدرة حتّى على الكتابة؛ فيما يتعلق بالمتلازمة، أمّا القفلة فهي التوقف المفاجئ عن إكمال الكاتب ما بدأ فيه.

بصفة عامة هي الحالة النفسية التي يفقد فيها الكاتب القدرة على الكتابة لمدّة محدّدة قد تطول وقد تقصر، ويقع الأمر حتى على الكتابات التي يعجز أصحابها عن الاستمرار فيها أو إتمامها بسبب فقدان الشغف أو الإلهام، الأزمة التي تقف خلفها عوامل نفسية تحول بين الكاتب وورقته. كما أنّها تشكّل مشكلة حقيقية تواجه الكتاب في أوقات غير مناسبة خاصة إذا كانت محدّدة بالآجال.

وهناك أيضا من يطلق عليها مصطلح "قلق" أو "رهاب" الصفحة البيضاء وهو عبارة عن قلق يسيطر على الكاتب جرّاء الخوف من فقدان الإلهام وعدم القدرة على إيجاد كلمات وعبارات وأفكار لكتابه القادم، وقد يمسّ الرسامين أيضا.

ما هي الأسباب التي تقف وراء متلازمة الصفحة البيضاء

يمكن تلخيص معظم الأسباب التي تفسّر مشكلة متلازمة الصفحة البيضاء فيما يلي:
– عدم قدرة الكاتب على إنتاج أفكار أو مواضيع جديدة.
– عدم توفر الظروف المناسبة للكتابة التي تعوّد الكاتب عليها، ويجد راحته فيها كالهدوء أو حتى الضوضاء.
– الخوف من الفشل، خاصة إذا تعوّد الكاتب على النجاح في أعمال سابقة.
– فقدان الإلهام بسبب الضغط النفسي، فالكاتب عادة ما يغترف إلهامه من علاقاته أو الأشياء المفضلة عنده، ما قد يجعله يزول بزوالها.
– تأخير وتسويف الكتابة لدرجة نسيان أهمّ الأفكار التي ترتكز عليها المواضيع المرشحة للكتابة.
– التركيز على المدة المحددة لإنهاء العمل أكثر من العمل نفسه.
– الاكتئاب وعدم الاستقرار الذهني، فالاكتئاب بحد ذاته يعد سببا كافيا لامتناع الكاتب عن الإنتاج.
– الإصابة بأمراض جسدية كالصداع النصفي الذي يمنع فكر الكاتب من معالجة المعلومة.
– الإرهاق والإنهاك والتعب النفسي والجسدي المتعلق بالعمل والمحيط مما يجعل الكاتب غير قادر على العطاء الإبداعي.
– مقارنة الكاتب أعماله بأعمال الآخرين وأحيانا السعي للتفوق في الكتابة أو التقليد.
– عدم الإحاطة بموضوع الكتابة.
– الخوف من النقد والإحباط وفقدان الدافعية للانجاز.
– الخوض في موضوع ما ثم الشعور بالندم لعدم ميل الكاتب له أو صعوبته.
– السعي وراء إيجاد أفكار وعبارات تبهر القرّاء لدرجة تجعل الكاتب يدور في حلقة مفرغة دون أن يكتب شيئا.
– الملل من الكتابة والكسل والتعود عليه.
– صبّ جميع الأفكار الإبداعية في عمل واحد حتى لا يتسنى للكاتب توليد أفكار أخرى.
– الإصرار على الكتابة وإجبار الكاتب نفسه على الخوض فيها في أوقات غير مناسبة لتحقيق هدف معيّن.
– الاستسلام من أول اختبار لمتلازمة الصفحة البيضاء حتى تمسي سلوكا متعلما.

كيف يمكن تحدّي متلازمة الصفحة البيضاء؟

هناك العديد من الطرق والتقنيات التي يمكن أن تسهم في مقاومة متلازمة الصفحة البيضاء نقدّم بعضها في مجموعة نصائح كالآتي:
– تحدّ نفسك واكتب فالتحدي علاج مساعد للتغلب على المشكلة، لا تستسلم للكسل فهو سلوك متعلم.
– اكتب كل ما يجول بخاطرك من عبارات وكلمات.
– خصّص وقتا للكتابة وتخلّص من مشتّتات الانتباه من حولك بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي.
– جد مكانا ملهما للكتابة وضع خطّة.
– اكتب في الموضوع الذي تحبه وتجد نفسك مرتاحا فيه وقادرا على الإبداع والعطاء فيه، لا تستمع لانتقادات الغير واكتب في الموضوع الذي يناسبك حتى وإن تلقيت إشارات تقول إنك غير قادر على التنويع. إن كنت تجد راحتك في "السياسة" أو "الحب" اكتب قدر ما شئت فيه دون مراعاة انتقادات الآخرين فيما يتعلق بالاختيار.
– لا تجبر نفسك على موضوع تفرضه عليك جهة معينة حتى تجد نفسك أمام عصر نفسي وانسداد فكري.
– لخصّ كتابات تحبّها أو ترى فيها أهمية فهذا سيساعدك على الإنشاء والتدرّب على الكتابة من جديد.
– اقرأ كتابات جميلة وملهمة، وأعد قراءة كتاباتك التي لطالما شعرت أنّها أقوى وأجمل ما كتبت، ستساعدك القراءة على الإنتاج مجدّدا.
– اكتب عن الحالة التي تتملكك، وكيف تختبر الآن متلازمة الصفحة البيضاء.
– ضع دفترا قرب سريرك أو في حقيبتك ترقبا لأفكار عابرة، ولا تكتب كل يوم حتى لا يحدث لك انسداد فكري وإذا تطلب الأمر استعن بموسيقى جميلة.
– ضع مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالموضوع الذي تريد الكتابة فيه ووزعها على شكل أفكار عامة لكل فقرة، ثمّ حاول الإجابة على كلّ سؤال في شكل فقرات صغيرة منفصلة.
– ضع هدفا واضحا ومحددا فالأهداف تحفّز المخ ولا بأس بشيء من القلق الإيجابي الذي يدفعك للانجاز.
– غادر مكان العمل وامنح نفسك فرصة استرخاء خارجه فمن الصعب العثور على الإلهام في مكتب مضغوط بالملفات والحسابات.
– تأمّل فيما حولك فإنها الوسيلة الأمثل لتحفيز المخ والتغلب على المتلازمة.
– خذ فاصلا لمدة معينة، ابتعد فيه عن الورقة والقلم وابدأ بتعبير شفهي، ثمّ قيّد ما قلته.
– جد حلّا لمسبّبات الاكتئاب لديك وواجه أزمتك حتى تتمكن من العودة للكتابة من جديد.
– ينصح الخبراء بكتابة الجملة أو الفقرة التالية حتى وإن فشل الكاتب في إنشاء الأولى، فبمجرد أن يتذوق حلاوة الكتابة تأتيه الجملة الأولى لوحدها وحتى إن كتب بطريقة متفرقة فسيأخذ النص شكلا مرتبا في الأخير.

قد يكون السبب المؤدي إلى فقدان شغف الكتابة أو عدم القدرة عليها خارجَ سيطرتك، لكن تأكد أنّك أنت من تفتح له الأبواب ليبقى ويخيّم على ذهنك لأنّ أقوى الحلول مبنية على إرادتك أنت. لا تتردّد في المحاولة ولا بأس ببعض الأوراق ترميها واحدة تلو الأخرى في سلة المهملات، المهم ألّا تقنع نفسك بأنّ العلاقة بينك وبين الورق قد انتهت والأهم أن تستجمع قواك لتتحدّى نفسك، فإذا كان الكسل سلوكا متعلما، تعلّم النشاط، وابدأ من جديد وتذكّر في كلّ مرّة ماضيك الحافل بالإبداع فإنّه محفزّ للنفس، ولا تنسى حتى كبار الأدباء جرّبوا متلازمة الصفحة البيضاء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.