شعار قسم مدونات

كيف نظر علي عزت بيجوفيتش إلى ثنائية الثقافة والحضارة؟

blogs - علي عزت بيجوفيتش

منذ الوهلة الأولى وبدون مقدّمات منهجية أو معرفية حسم بيجوفيتش فكرته في تناقض الثقافة والحضارة وتعارضهما، وحدد لكل منهما مسارًا تاريخيًا ودينيًا وأخلاقيًا متباعدًا ومتعارضًا باضطراد، وظل يركز ويرسخ هذا المعنى الذي ينتصر فيه إلى الثقافة انتصارًا بارزًا، وينتقد بالمقابل وبشدة فكرة الحضارة. وفي هذا الطرح ينطلق علي عزت من موقف فلسفي له علاقة بطبيعة الرؤية إلى الإنسان والدين والحياة والكون، في تحديد تصور كلي ونهائي لكل من الثقافة والحضارة، لكي يقطع بينهما قطعا نهائيا وجازما.

لكل هذا، حاول علي عزت أن يعود بهذه القضية إلى بداية ظهور الإنسان، أو بداية تشكل النظرة إليه، تلك النظرة التي شهدت انقسامًا وصفه بثنائية الأداة والعبادة، أو هكذا حاول علي عزت تصويره ومقاربته، بحيث يقول في هذا الصدد:" هناك حقيقتان متعارضتان ارتبطتا بظهور الإنسان، هما الأداة الأولى، والعبادة الأولى"، ويرى بيجوفيتش إن العبادة والأداة يمثلان طبيعتين وتاريخين للإنسان: تاريخ هو دراما إنسانية، تبدأ من "المرحلة التمهيدية لوجود الإنسان بالجنة" ثم تتطور خلال انتصار فكرة الحرية، وتنتهي بيوم الحساب في الآخرة، وهي الوازع الأخلاقي للتاريخ. أما الثاني، فهو تاريخ الأدوات أو تاريخ الأشياء الذي ينتهي بالدخول في المجتمع الطبقي، وقصور الطاقة، شأنه في ذلك، شأن بقية العالم المادي. هذان التاريخان لهما العلاقة نفسها التي بين العبادة والأداة، وهي العلاقة نفسها التي بين الثقافة والحضارة.

من ثنائية الأداة والعبادة يصل بيجوفيتش إلى ثنائية أخرى يستند إليها في تأكيد الفوارق بين الثقافة والحضارة وتعميقها، وهي ثنائية التعليم والتأمل، حيث ينسب الحضارة إلى التعليم

ومن خلال ما سبق، تساهم هذه الرؤية في الكشف عن مكنونات التفكير ومنطق التحليل والفهم عند بيجوفيتش لفكرته عن الثقافة والحضارة، بقدر ما تساهم أيضًا في إضفاء قدر من الغموض على فكرته، لأنه لم يحدد على وجه الدقة علاقة الثقافة والحضارة، والعبادة والأداة. ويكمل علي عزت رؤيته الميتافيزيقية للثقافة حيث يربطها بعالم السماء والمثل العليا، في حين يربط الحضارة بعالم الأرض، أو الطبيعة والعناصر المادية عنده تعنى: "الثقافة تبدأ «بالتمهيد السماوي» بما اشتمل عليه من دين وفن وأخلاق وفلسفة، وستظل الثقافة تُعنى بعلاقة الإنسان بتلك السماء التي هبط منها، فكل شيء في إطار الثقافة إما تأكيد أو رفض أو شك أو تأمل في ذكريات ذلك الأصل السماوي للإنسان. تتميز الثقافة بهذا اللغز، وتستمر هكذا خلال الزمن في نضال مستمر لحل هذا اللغز".

أما الحضارة عنده فهي:" استمرار للحياة الحيوانية ذات البعد الواحد، التبادل المادي بين الإنسان والطبيعة. هذا الجانب من الحياة يختلف عن الحيوان فقط في الدرجة والمستوى والتنظيم. هنا لا نرى إنسانًا مرتبكًا في مشاكله الدينية، أو مشكلة «هاملت» أو مشكلة «الإخوة كرامازوڤ»، إنما هو عضو المجتمع الغُفل، وظيفته أن يتعامل مع سلع الطبيعة ويغير العالم بعمله وفقًا لاحتياجاته". وانطلاقا من الحقبة التمهدية لوجود الإنسان في الجنة، إلى العلاقة الجدلية التي تربط الإنسان بالسماء التي نزل منها، وبذلك يتابع بيجوفيتش نسق الأطوار التي حددها بطريقة متدرجة، ويصل إلى الدين، ومن ثم إلى الإنسان، وإلى العالم الداخلي للإنسان، وفي كل هذه الأطوار حاول بيجوفيتش أن يظهر الفوارق الفاصلة والمتباعدة بين الثقافة والحضارة.

فمن جهة العلاقة بين الدين والإنسان، يقول بيجوفيتش: "الثقافة هي تأثير الدين على الإنسان أو تأثير الإنسان على نفسه، بينما الحضارة هي تأثير الذكاء على الطبيعة أو العالم الخارجي". الثقافة معناها «الفن الذي يكون به الإنسان إنسانًا»، أما الحضارة فتعني «فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء صناعة دقيقة»، الثقافة هي «الخلق المستمر للذات». أما الحضارة، فهي «التغيير المستمر للعالم». وهذا هو تضاد: الإنسان والشيء، الإنسانية والشيئية.

ومن جهة العلاقة بالعالم الداخلي للإنسان، أو بين الحياة البرانية والجوانية للإنسان، يرى بيجوفيتش أن:" والحضارة في خلقها الدائم لضرورات جديدة وقدرتها على فرض الحاجة على من لا حاجة له، تعزز التبادل المادي بين الإنسان وبين الطبيعة وتُغري الإنسان بالحياة البرانية على حساب حياته الجوانية. «وانتج لتربح، واربح لتبدد» هذه سمة في جبلَّة الحضارة. أما الثقافة (وفقًا لطبيعتها الدينية)، فتميل إلى التقليل من احتياجات الإنسان أو الحد من درجة إشباعها، وبهذه الطريقة توسع في آفاق الحرية الجوانية للإنسان". ومن ثنائية الأداة والعبادة يصل بيجوفيتش إلى ثنائية أخرى يستند إليها في تأكيد الفوارق بين الثقافة والحضارة وتعميقها، وهي ثنائية التعليم والتأمل، حيث ينسب الحضارة إلى التعليم، وينسب الثقافة إلى التأمل، ويربط التعليم بالطبيعة، ويربط التأمل بجوانية الإنسان، وحسب رأيه فإن:" الحضارة تعلم، أما الثقافة فتنور، تحتاج الأولى إلى تعلم، أما الثانية فتحتاج إلى تأمل".

وحين يفرق علي عزت بين التأمل والتعلم، يرى أن:  "التأمل جهد جُواني للتعرف على الذات وعلى مكان الإنسان في العالم، هو نشاط جَدّ مختلف عن التعلم وعن التعليم وجمع المعلومات عن الحقائق وعلاقتها بعضها ببعض. يؤدي التأمل إلى الحكمة والكياسة والطمأنينة، إلى نوع من التطهير الجواني الذي سماه الإغريق «Catharsis». وأما التعليم فإنه حسب نظره يواجه: "الطبيعة لمعرفتها ولتغيير ظروف الوجود. يطبق العلم الملاحظة والتحليل والتقسيم والتجريب والاختبار. بينما يُعنى التأمل بالفهم الخالص، بل إن الأفلاطونية الجديدة تزعم أنها طريقة للفهم فوق عقلانية. الملاحظة التأملية «متحررة من الإرادة ومن الرغبة». إنها ملاحظة لا تتصل بوظيفة أو مصلحة. فالتأمل ليس موقف عالم، بل موقف مفكر شاعر أو فنان أو ناسك. وقد تعرض للعالم بعض لحظات من التأمل لكنه يفعل هذا، لا بصفته عالمًا، ولكن باعتباره إنسانًا أو فنانًا «فجميع الناس هم فنانون بشكل أو بآخر». يمنح التأمل قوة على النفس، أما العلم، فإنه يعطي قوة على الطبيعة. وتعليمنا في المدارس يُزكي فينا الحضارة فقط ولا يساهم بشيء في ثقافتنا". وهذا التعارض بين الإنسان والعالم، بين الروح والذكاء، وبين الحضارة والثقافة.

وقد ظل بيجوفيتش يتابع الحديث عن الفوارق بين الثقافة والحضارة، تأكيدا لهذه الفوارق، وانتصارا لفكرة الثقافة، ومن هذه الفوارق ما يتجلى نحسب تسميته يبين ثنائية التعليم التقني والتعليم الكلاسيكي ويرى أن التعليم التقني يعتمد على الفكر، بينما يعتمد التفكير الكلاسيكي على الجانب الإنساني، وأن التعليم التقني موجه لغاية محددة بإحكام، واهتمامه منصب بالسيطرة على الطبيعة أو العالم الخارجي، أما التعليم الكلاسيكي فعلى العكس من ذلك، حيث يبدأ وينتهي عند الإنسان.

لهذا يرى بيجوفيتش أن: "معضلة التعليم التقني في مقابل التعليم الكلاسيكي ليست معضلة فنية، وإنما هو مسألة أيديولوجية تكمن وراءها فلسفة معينة. ففي هذين النوعين من التعليم ينعكس التضاد بين الثقافة والحضارة بكل ما يترتب عليه من نتائج". من خلال ما سبق، نستشف مدى جدية بيجوفيتش في الكشف عن الفوارق الأساسية بين الثقافة والحضارة، بالعودة إلى ثنائيات تنتمي إلى مجالات متعددة، فقد أشار إلى هذه الفوارق من خلال ثنائية الريف والمدينة، وثنائية الدين والثورة..، وغيرها من ثنائيات أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.