شعار قسم مدونات

كيف تنبأت رواية يوتوبيا بعصر النيوليبرالية العربي؟

blogs يوتوبيا

ليس فقركم ذنبنا! ألا تفهمين بعد أنكم تدفعون ثمن حماقتكم وغبائكم وخنوعكم؟ عندما كان أباءنا يقتنصون الفرص كان أباءكم يقفون أمام طوابير الرواتب في المصالح الحكومية، ثم لم تعد هناك مصالح حكومية. لم تعد هناك رواتب. أنتم لم تفهموا اللعبة مبكراً لهذا هويتم من أعلى إلى حيث لا يوجد قاع. ما ذنبنا نحن؟

بهذه التساؤلات التي يغلب عليها طابع اللوم والنقد يحاول الراحل أحمد خالد توفيق الشهير لدى جيل الشباب بالعراب في روايته يوتوبيا تقديم لمحة مستقبلية عن المجتمعات العربية في مرحلة ما بعد النيولوبيرالية، وعما ستؤول إليه الأوضاع الاجتماعية في ظل الركود الاقتصادي الحالي والاخفاق التنموي والانبطاح التام للمؤسسات المالية الدولية، ورغم أنها نشرت سنة 2008 أي ما قبل ما عُرف إعلامياً بثورات الربيع العربي، إلا أنها تنبأت بخطورة الاحتقان الاجتماعي واستفحال المظالم ومدى قابليتها في تفجير ثورات وهبات شعبية عنيفة.

تنتمي هذه الرواية لصنف ديستوبيا أو أدب الفوضى وهو عالم ينتصر فيه الشر ويسود فيه الظلم والقهر، ومن أشهر من كتب في هذا النمط جورج أرويل في رائعته 1984. يتخيل الراحل أحمد خالد توفيق من خلال عمله هذا المجتمع المصري سنة 2023 حيث سينقسم إلى طبقتين على طرفي النقيض، طبقة غنية تعيش في ترف وبذخ داخل مدينة تسمى باليوتوبيا حيث كل شيء مُتوفر وكل شيء مُباح بما فيها ممارسة جميع الانحلال والشذوذ الأخلاقي. يوتوبيا مدينة تغيب فيها الهوية الانسانية، تنتفي فيها المثل والاخلاق لا هم فيها إلا إشباع الشهوات الحسية والجسدية، وسُكانها يعيشون في حالة قلق دائم من الخطر القادم من الجانب الآخر من يوتوبيا وتوجس دائم من إمكانية انفجار ثورة الفقراء.

  

حياة يومية أشبه بالجحيم على الأرض، يسُودها اليأس من إمكانية الخلاص خاصة بعد أن تخلت الدولة عن مسؤوليتها في الرعاية الاجتماعية لمواطنيها

ولذلك فنجد أنها محمية جيداً بمختلف الوسائل وتحت حراسة دائمة من قوات المارينز ولا يُسمح لمن هو خارج طبقة أغنياء بدخولها إلا في حالة وجود تصاريح أمنية للعمل. وعلى الجانب الآخر من أسوار يوتوبيا تترامى أحزمة سُكانية عشوائية تقطن بها طبقة الأغيار المعدمة التي تعيش حياة حرمان وقهر وبؤس منقطع النظير، فلا وجود للماء وللكهرباء وللغذاء وللخدمات والسلع الضرورية، ولا وجود لفرص العمل إلا كخدم لدى الاغنياء في يوتوبيا. في هذه الظروف يتعذر على الإنسان أن يلبي احتياجاته الآدمية العادية لدرجة أن تناول لحوم الكلاب والفئران هي وجبة فاخرة وكل ما يمكن الحصول عليه فضلات الطعام.

حياة يومية أشبه بالجحيم على الأرض، يسُودها اليأس من إمكانية الخلاص خاصة بعد أن تخلت الدولة عن مسؤوليتها في الرعاية الاجتماعية لمواطنيها، تاركة بذلك إياهم أمام مصاعب الحياة بعد أن جُردوا من كل ما قد يُساعدهم على تَدبّر أمورهم المعيشية العادية. في خضم هذا الصراع الطبقي تتسارع أحداث الرواية حينما يُقدِم أحد أبناء يوتوبيا المُترفين بدافع شعوره بالملل على كسر روتين حياته الباذخة من خلال القيام بتجربة جديدة وهي مغامرة لمطاردة صيد الآدميين وقطع أعضائهم لجلبها كتذكارات.

وبعد أن ظلل الحراس استطاع أن يتسلل ليلاً خارج أسوار يوتوبيا رفقة صديقته حيث دخلا تجمعات الفقراء ثم استدرجا فتاة وبعدها كانا سيقتلانها، إلا أنه سرعان ما انكشفت فعلتهم ليجدوا أمامهم جموع غاضبة من الفقراء ولم ينقذهم إلا شاب فقير مثقف بعد أن هَدّأَ الجموع الهائجة بالبعض من المخدرات التي كان يحملها الشابان اليوتوبيان. هذا التصرف الذي جاء بدافع أن يُثير عطفهما وشفقتهما على حال المستضعفين والفقراء، لكن هذا الجميل لم يشفع له في شيء إذ سيتعرض بدوره للقتل غيلة وحينها سيفران للعودة إلى موطنهم بعد أن أشفيا غليل نزواتهم السادية.

وبعودة الشاب اليوتوبي الغني لوطنه سيتفاجأ في أحد الأيام بخبر سرقة الفقراء لشحنة البايرول الثروة الأولى لمستعمرتهم والتي عوضت البترول كمصدر الطاقة الأساسي فتتوقف معها جميع الأنشطة ومظاهر الحياة، فتصبح يوتوبيا بيئة معزولة عن العالم ومحاصرة من كل الجهات بلا حماية لتندلع الحرب بين شعبين شعب الاغنياء وشعب الفقراء.

تحمل الرواية بين طياتها العديد من المعاني، هي رسائل تحذير من نذر مستقبل سوداوي مُظلم تتضح معالمه في الأفق، بعد أن أمعنت الحكومات العربية في تنزيل توجيهات المؤسسات الدولية المالية التي يغلب عليها طابع النيوليبرالية وهي عقيدة اقتصادية تقوم أساساً على مبادئ تحرير الأسواق والتبادل الحر والخصخصة والتقشف. وفي سبيل ذلك يجب توفير بيئة حاضنة للاستثمار ومن خلال تطوير البنية التحتية وتخفيض الضرائب على الشركات. كما لابد من تقليل التكاليف والأعباء الاجتماعية إلى أقصى حد، بل وخصخصة المرافق العمومية وهي توجهات تُبَرَر دوماً بكونها آليات لتحريك قوى الانتاج وزيادة الثروة الوطنية.

بالعودة إلى مضمون الرواية فإن أحداثها هي نبؤه استشرافية تصف العواقب المترتبة عن التطبيق الحرفي للنيوليبرالية التي لم تواكبها تدابير لمنع أعراضها الجانبية
بالعودة إلى مضمون الرواية فإن أحداثها هي نبؤه استشرافية تصف العواقب المترتبة عن التطبيق الحرفي للنيوليبرالية التي لم تواكبها تدابير لمنع أعراضها الجانبية

توجهات تسير في اتجاهها العديد من البلدان العربية مصر والجزائر وتونس والمغرب والأردن، تجلت في تحرير أسعار الوقود وتخفيض فرص العمل في القطاعات الحكومية وتجميد الأجور، ويتزامن كل هذا مع الزيادة السريعة في الأسعار وفي الضغط الجبائي على الطبقات المتوسطة والفقيرة. الواقع أن هذا صعود للنموذج بالعالم العربي الذي ترافق مع الأزمات الاجتماعية الخطيرة التي أضحت تباشيرها تظهر جلية للعيان. خاصةً انهيار الطبقة المتوسطة وهي صمام أمان واستقرار المجتمعات بعد أن أضحت عاجزة عن مواكبة التغيرات السريعة التي حملتها النيوليبرالية في ظل قوانين عمل جائرة وتكاليف معيشية باهضة ساهمت في انزلاق العديد من أفرادها إلى هوة الفقراء العابرين.

الأمر الذي يُسرّع عملية إعادة هندسة المجتمع ليتحول معها لهرم مُجوّف يَتكَون من طبقتين في القمة أقلية غنية مترفة متنفذة، والقاعدة العريضة مكونة من أغلبية فقيرة مسحوقة محرومة. في كتابه الشهير عولمة الفقر يؤكد الباحث الكندي ميشيل تشوسودوفسكي على أن سياسات إعادة الهيكلة الاقتصادية النيوليبرالية التي انخرطت فيها بلدان العالم الثالث، قد خلفت مشاكل خطيرة تمثلت في البطالة والفقر وتقويض الحريات العامة وتراجع حقوق الانسان بشكل عام. بالإضافة إلى ارتهان القرار السيادي للدول النامية بيد نخب رأسمالية متوحشة.

بالعودة إلى مضمون الرواية فإن أحداثها هي نبؤه استشرافية تصف العواقب المترتبة عن التطبيق الحرفي للنيوليبرالية التي لم تواكبها تدابير لمنع أعراضها الجانبية المتجلية في حالة الافلاس القيمي والمادي والحضاري العربي، تظهر تجلياته مع عجز الحكومات العربية عن حل أزماتها الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة وتوجه أخرى نحو خيانة الثوابت القومية والدينية ورهن ثرواتها لصالح قوى امبريالية حفاظاً على عروشها المهترئة. وهنا تكمن عبقرية هذا العمل الأدبي بتضمنه إشارات عنها تتجلى في ذلك الحوار بين الشاب اليوتوبي الغني والشاب الفقير: هل لديكم إسرائيليون في يوتوبيا؟

قلت في دهشة: كثيرون.. أعز أصدقائي منهم "قال وهو يعاود المضغ: هذه سمة مُهمة لدى قومك.. لقد اتخذوا موضعهم في الشرق الأوسط الجديد الذي كانوا يتحدثون عنه.. المثلث الذي حلمت به إسرائيل كثيراً.. مال خليجي (قبل أن ينضب) ذكاء إسرائيلي.. أيد عاملة مصرية رخيصة. إن يوتوبيا هي نقد مبطن للأنظمة العربية المحمية من قبل المارينز والتي فضلت الارتماء في المشاريع الغربية الاسرائيلية وتمويلها، والتي تتضح في هذا التقارب السريع بين البلدان الخليجية وإسرائيل. عوضاً عن الدفاع عن مصالح الأمة العربية وهي في الآن ذاته جرس إنذار عن بوادر الانهيار التام للمنظومة العربية بشكلها الحالي.

 كما أنها تُوحي إلى جانب مُظلم من مجتمعات الشرق الأوسط الجديد في طور التشكل تغذيه حالة الاستقطاب الطبقي الذي عَمّق الهوة بين أغنياء مترفين تتراكم ثرواتهم بشكل سريع بفضل سياسات منحازة تقودها نخب حاكمة تعيش في وهم يوتوبي مبني على عبادة المال والتضحية بالمثل والقيم والواجب الأخلاقي. وذلك في سبيل حلم الغنى والثروة والاستئثار بالسلطة وهو الوضع الذي يجعلها معزولة عن غالبية الشعب الفقير المُعدم الذي سُحقت آدميته والذي تحول إلى عبء ينبغي الخلاص منه دون مراعاة لما تقتضيه الأعراف الإنسانية. هذا العمل الأدبي صرخة في وجه الظلم الطبقي والاستعباد والاستغلال، ودعوة لإعادة النظر في هذا النموذج الاقتصادي الذي سيرسم كل تفاصيل ومناحي حياتنا اليومية وسيقود البشرية حتماً إلى هلاكها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.