شعار قسم مدونات

وقفات مع التفسير العلمي للقرآن الكريم

blogs - Quran

 رأينا بعض الإخوة المدونين في هذا الموقع العلمي المبارك قد كتبوا بعض المقالات المتعلقة بالإعجاز العلمي أو التفسير العلمي للقرآن الكريم، فمنهم من كان منطقياً ومُعتدلاً ومنهم من كان بعيداً عن الحقيقة العلمية والشرعية في هذه المسألة. فكان لِزاماً على الباحثين والمشتغلين بعلوم القرآن والدراسات القرآنية أن يقوموا بيان وجه الحق في هذه المسألة وفقاً لاجتهاداتهم البشرية مقرونة بالأدلة العلمية والشرعية فيما يقررون ويذهبون إليه في هذه المسألة. هذه القضية العلمية المُهمة شغلت بال كثير من العلماء والباحثين في الدراسات القرآنية والتفسيرية قديماً وحديثاً. 

لقد شغلتني أنا أيضاً ورأيت تعقيداً وخلطاً في كلام بعض العلماء والباحثين، فحتى نُقرب هذه المسألة إلى إدراكنا وإدراك الإخوة القُرّاء لا بد من المرور على بعض معالمها ولو باختصار، فأقول وبالله التوفيق والهداية. من خلال مطالعتي ومتابعتي لحركة هذه الفكرة العلمية قديماً وحديثاً، فقد رأيت أن أقوال العلماء فيها قد تشابكت وتضاربت، وأنه كثيراً ما صدر من بعض العلماء حُكم واحد على الجميع مع تفاوت آرائهم واختلاف مواقفهم في هذه القضية، فبالتالي لم يُحسم الأمر حسماً نهائياً. وهذا دفعني إلى تلخيص آراء العلماء وتوجهاتهم حول هذه القضية المهمة. وذلك من خلال تناولنا وتوضيحنا لجملة من القضايا الأساسية في هذه المسألة باختصار.

أولاً: ما مفهوم التفسير العلمي وما المقصود منه؟
ذهب الشيخ عبد العظيم الزرقاني إلى أن المقصود من التفسير العلمي هو العلوم الكونية والمعارف والصنائع وما جد وما يجد في العالم من فنون ومعارف، مثل علم الهندسة والحساب ولهيئة والاقتصاد والاجتماع والطبيعة والكيمياء والحيوان والنبات وعلم طبقات الأرض.. وهذا هو الذي يبدو للباحث صحيحاً وراجحاً في هذه المسألة، فعندما نتحدث عن التفسير العلمي للقرآن الكريم، يجب أن نضع نُصب أعيننا هذه القضايا العلمية التي ذُكرت. فالمفسر الذي ينهج هذا المنهج في تفسيره يكون هدفه ربط دلالات بعض الآيات القرآنية على ضوء ما وصل وانتهى إليه العلم من الحقائق العلمية اليقينية، لا الفروض والنظريات، بغرض إبراز عظمة الخالق في هذا الكون وبيان إعجاز القرآن الكريم على أنه من لدن حكيم خبير. 

لا تعارُض بين القرآن الكريم وبين الحقائق العلمية الثابتة والقائمة على اليقين. بل إن القرآن الكريم يؤيدها ويؤكدها

فليس المراد أو المقصود من التفسير العلمي تحكيم الاصطلاحات العلمية أو الفلسفية في الآيات القرآنية كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء في العصر الحديث مثل، الأستاذ أمين الخولي والشيخ الدكتور محمد حسين الذهبي عندما قالوا: "بأنه التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها!!" فالمفسر لا يحُكِّم ولا يُحمّل على عبارات القرآن الاصطلاحات العلمية الحديثة، وإنما يستعين بها ليلقي مزيداً من الضوء على المعاني القرآنية اللامتناهية المُستنبَطة من الآيات القرآنية. فهذا هو الغرض والمقصود من التفسير العلمي.

ثانياً: تعريف التفسير العلمي
فإذا عرفنا المقصود من التفسير العلمي، يمكننا إذن أن نصوغ له تعريفاً آخر يتماشى مع غرضه، غير الذي ذكره هؤلاء الباحثون. ولعل تعريف الأستاذ الدكتور: أحمد عمر أبو حجر أقرب إلى الغرض المقصود، وهو الذي نميل إليه، عندما قال: "هو التفسير الذي يحاول فيه المُفسِر فهم عبارات القرآن في ضوء ما أثبته العلم، والكشف عن سر من أسرار إعجازه، من حيث أنه تضمن هذه المعلومات العلمية الدقيقة التي لم يكن يعرفها البشر وقت نزول القرآن، فدل ذلك على أنه ليس من كلام البشر ولكنه من عند الله خالق القوى والقدر".

ثالثاً: هل هناك تناقض بين الآيات القرآنية الصريحة والحقائق العلمية الثابتة؟
باختصار شديد جداً، نقول إنه لا تعارُض بين القرآن الكريم وبين الحقائق العلمية الثابتة والقائمة على اليقين. بل إن القرآن الكريم يؤيدها ويؤكدها، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يمكن أن يكون هناك تناقض بين صحيح المنقول وصريح المعقول.."، فأعتقد أن هذا الكلام واضح ولا يحتاج إلى بيان. وإذا ورد ما يُشعِر التعارض أو التناقض، فالجواب كما قال بعض العلماء، فهو إما أن يكون صريحاً غير صحيح، أو صحيحاً غير صريح. 

ولا أوافق الأستاذ الدكتور أحمد عمر أبو حجر على ما ذهب إليه من إيراد كلام الشيخ الإمام محمد عبده وبعض الباحثين الآخرين في خصوص تعارض العقل مع النقل، دون أي تعقيب أو نقد، عندما أورد كلام الإمام محمد عبده: "بأن هناك اتفاقاً بين أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه، على أنه إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما دل عليه العقل وبقي في النقل طريقان: الأول: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله، والثاني: تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل".

ونعقب على كلام الإمام محمد عبده، ونقول: بأننا فرضاً لو أوّلنا ذلك النص المنقول وفق قوانين اللغة العربية ولم يتفق مع ما أثبته العقل، فما الحل إذن؟ أنلوي عُنق النص ونحمله فوق ما يحتمل، حتى يتفق مع ما أثبته العقل؟! فهذا لا يقول به من له أدنى إلمام بعلوم اللغة العربية وعلم أصول الفقه. ففي هذه الحالة نُوافق الإمام محمد عبده عندما قال: نُسلّم بصحة المنقول ونعترف بالعجز عن فهمه ونفوض حقيقة معناه إلى الله تعالى، ولا نقدّم العقل على النقل الصحيح، والله أعلم. وفي الجزء الثاني من تدويننا سنتطرق إلى تصنيف مواقف العلماء قديماً وحديثاً تجاه التفسير العلمي للقرآن الكريم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.