شعار قسم مدونات

مُحتَجزٌ أنت داخل نفسك

blogs تأمل

عند حروفكَ، أجيدُ القراءةَ لكنّي لا أتقنُ الكتابة، وعند حروفي، أجيدُ الكتابةَ لكنّي لا أجرؤُ على قراءتها قط، ليسَ بالضرورة أنْ أُسْمِعُكَ ردّي لكي تتأكد أنّني أتقنُ الأبجديّة، ولستُ مجبَرةً على الإثبات، لأريكَ أنّي أهلُ الرومنسية، الروحُ تائهة، والشمسُ لم تخرج هذا اليوم، وأنا في حُجرتي محتجزةٌ كما خريطةٍ صغيرةٍ في كتبٍ جغرافيّة. 

 

الحقل بيننا كبيرٌ ومتصحّر، القمحُ سنابلهُ حزينة، تنتظرُ منك نسمةً تداوي جروحها وتجعلها ترقصُ متشابكة، البئر عميقٌ يحتاجُ مؤنساً يكسرُ وحشته، والأغنامُ تجمعّت كئيبةً تنتظرُ منك صفّارة قوية، لعلّ نداءَك يُصرّح لها بالخروج، وامرأة الجبلِ ترتدي زيّها الطويل وجدائلُها تنسابُ على كتفيها كما ينسابُ السيلُ النقي من القممِ الجبليّة، ونور الشمس… ولو رأيتَ نور الشمس كيف يقتحمُ جفنيها ويعانق عينيها العسليّة، وكأنّ رمشها خليّة، تخبئُ خلفها بحراً من العسلِ المختلط بخيوط الشمسِ الذهبية، فينتج عنها حقلا مزهرا أزهاره صفراوية، سنابلُ قمحهِ تنتَصبُ وتبدأ الغناءَ بجسدٍ ممشوق، تخضعُ للشمس طالبة منها الرضا، فتأتي أنتَ وتبتسمُ بعفويّة، ليروح بعدها السراج خجولا ينام وراء غيمة رمادية، وتتسارع سنابلُ القمح وتطأطئ رأسها هيبة لك ووقارا، وتدخل الأغنامُ مسرعةً وشبعة، لا تُغريها أعشابٌ أرضيّة. 

 

كنْ أنت دون تكلّف ودون تصنّع، كنْ أنت بكلّ عفويّة، كنْ قوياّ إلى أنْ تنفذ طاقتك، وبعدها كن ْقنبلة مدوية، وامنحْ سقوطك لحظة جدية، لا تطرد حباً أنت لا تغادره

محتجزٌ أنت داخل نفسك، كما الحرّ وراء قضبانٍ معدنيّة، تعثو وتعثو دون حراكٍ، كما الطيور في أقفاصٍ ذهبيّة، كما فؤاد احتلّه الحب، وكلمة "أحبكَ" مُحتَجزةً في فمِ فتاةٍ شرقيّة. محتجزٌ أنتَ داخل نفسك، كما رصاصة تنتظرُ أمر البندقيّة، كما قطرة غيثٍ تنتظر غيوماً صيفيّة، كما نسمة فجرٍ من ليلةٍ وتريّة، كما حرف الضادِ خطّته يد امرأة أميّة، محتجزٌ أنت داخل نفسك. 

 

عند قصائدي يقفُ القلمُ ليبحر في بحر كلمات ربي، يغوص في المعاجم فيحتار بين الكلمات الجوهرية، يريد أن يصف حالي فيغرق في بحور العربية، لا تُسعِفُه خلجانٌ ولا شواطئ، ولا يجدُ لنجاتِه أرضاً بريّة، يُقَيَّد كما كفيّ ثائرٍ أراد الحرية، ويُعتَقَلُ كما جريمة إرهابية، يرى من حوله عشرات وألوف، وفي صباحه من البعيد تحية، وفي مسائه بضعة حروف، يحيك من ضلالته قصيدة شعريّة، ينثرها على الجموع في كل أمسية، ثم يرحل… يرحل كما موج بحر أمره المد والجذر في ليلةٍ قمرية، يرحل كما تغيبُ الشمسِ وتنحدرُ نحو الأسفلِ بخيبةٍ فلكية، يرحلُ فؤادي نحو زنزانةِ الجلّاد ويشتمُ الحرية، لا تعدْ تغويهِ الحياة ولا الألوان الزهرية. 

 

ثم تجثو… تجثو على قدميكَ بعدَ صدمةٍ قوية، تلتقطُ أنفاسَك الأخيرة، وتوّدعُ الحياةَ برغبةٍ كبيرة، تريدُ لقاءَ الله وجنةً أبدية، فتعود ذاكرتك إلى أيام الخطايا، و تُيقن أنك لا تستحقُ فردوسا، فتنهضُ بقوة ٍتضربُ بروحكَ عرض الحائط، وتستعيدُ قدرتك البشرية، ترمي همومَك في مزبلةِ التاريخ، وتنهضُ من جديدٍ تعانقُ الحياة، وتطلقُ سراح نفسك في سبيلِ من أحببت، لا تهتمُ لعاداتٍ ولا أعرافٍ تقليدية، جلّ ما تريده راحة الضمير، وكلمة تخرجها من لسانك حتى لو أبادت البشرية، كلمةً تريد أنْ تبوح بها، فتقطع بعدها الأشجار اللوزية، وتنتفض عند سماعها الأغصانُ، وتتساقطُ معها أوراق خريفية، تبوحُ بكلمتك هذه فتقتبس من لحنها حناجر الطيور، وتغنيها البلابل بكل سريّة، وأنت بكل شجاعتك تقفُ على ناصية الحياة و تغنيها بعلنيّة، تخرجُ من فيك قصةَ الروح، وقصة الضلالة وقصة الهداية، وقصة الحياة وقصة الممات، وقصة الغناء وقصة التلاوة، وقصة البحر وقصة البر، وقصة الليل، وقصة النهار، وقصة الشروق وقصة الغروب، وتبوح بعدها بكلمة ختاميّة، كلمة كانت محتجزة داخل فمكَ بين شفاهك تتسلق حبالك الصوتية، كنهوضٍ من بعد جاثوم و أحلامٍ كابوسيّة، تلتقط ريشة بيضاء من جناح حمامة ترفرف، تلصقها بكتفيك و تحلق بأريحيّة، تعانق الغيوم الغاضبة، فتغدو بعطفك سحب ورديّة.

 

ثم تبدأ.. فتعلو وتعلو… حتى تعانق الأرض بغمرة ودّية، تمسحُ الحزنَ عن قلوب الجرحى، وأنت جروحك أحقّ بالأدوية العاطفيّة، وبعد كل تلك القوة التي تنهضُ بها، تسقط أنتَ بين أحضانٍ كانت ولا تزال مبتغاكَ في هذه الأرضية. تسقط قوتك وأقنعتك القوية، وتهوي أمام المحبوب عديم القوة فاقد الإيجابية.

 

كنْ أنت.. كنْ أنت دون تكلّف ودون تصنّع، كنْ أنت بكلّ عفويّة، كنْ قوياّ إلى أنْ تنفذ طاقتك، وبعدها كن ْقنبلة مدوية، وامنحْ سقوطك لحظة جدية، لا تطرد حباً أنت لا تغادره، ولا تمنع يراعك عن الأبجدية، لا تمنع نفسك عن الغضب، بالتمرّد ننالُ نحن الحريّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.