شعار قسم مدونات

كذبة إعادة الإعمار.. كيف تستغل الحكومات الكوارث لتحقيق أهدافها؟

blogs سوريا

حدثَ ذلك في الخمسينيات من القرن العشرين، عندما تعاونت وكالة الاستخبارات الأمريكية مع طبيبٍ نفسي معروف يدعى (أيوين كاميرون) وقامت بتمويل أبحاثه التي ركزت على استخدام الصدمات الكهربائية على أدمغة المرضى النفسيين، وذلك من أجل تحويل أدمغتهم الى (صفحة بيضاء يمكن إعادة كتابة المعلومات عليها)!

 

حيث قام كاميرون بمحاولة إلغاء ذاكرة المرضى عن طريق الصدمات الكهربائية والمهلوسات والعزل التام، ومن هذه التجربة استقى عالم الاقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان المثير للجدل إحدى افكاره ونظرياته الشيطانية والتي تشرح كيف يمكن للحكومات أن تفتعل الكوارث والأزمات مستخدمةً ما يُسمى بـ (العلاج بالصدمة الاقتصادية)!

  

إن رؤية فريدمان في هذه النظرية تتمحور في قوله: (الأزمات فقط، حقيقية أو متصورة، تنتج تغييراً حقيقياً). وبما أن الأزمات والكوارث تنتج تغييرات محورية ومهمة عند حدوثها فإنه يجب استغلالها لمصلحة الحكومة أو لتحقيق أهدافٍ معينة، وفي حال عدم وجودها فإنه يجب افتعالها وصنعها ومن ثم استغلال نتائجها حسب ما يقول فريدمان في نظريته الحائزة على جائزة نوبل للاقتصاد.

 

هذه النظرية والنزعة الأيديولوجية قد خدمت بنجاح مصالح الحكومات والشركات الكبرى في المجتمع على مدى نصف قرن، رغم أنها بدأت بالتلاشي بسبب زيادة وعي الأفراد والمجتمعات بمـا وراء السياسة الرأسمالية

ويتم استغلال هذه الكوارث سواءً كانت انقلابات عسكرية أو هجمات إرهابية أو انهيارات وتقلبات اقتصادية أو حروب أو حتى كوارث طبيعية كالأعاصير والزلازل والفيضانات والتسونامي وغيرها من أجل إقناع الشعب بقبول سياسات وقرارات اقتصادية معينة ليس من المتوقع أن يقبلوها في الحالات الطبيعية، فمن المقبول جداً على سبيل المثال في أوقات الحرب أن ترى الشعوب قد تخلت عن حقوقها وأموالها للحكومة مقابل أن تعيش!

 

وليس أدلّ على ذلك مما حدث في سريلانكا نقلاً عن نعومي كلاين في كتابها عقيدة الصدمة: "وصف هرمان كومارا، رئيس حركة تضامن مسامك سريلانكا الوطنية التي تمثّل الصيادين الصغار، حركة إعادة الإعمار بأنّها (تسونامي ثانٍ للعولمة الشركاتيّة). وقد اعتبر هذه الخطوة محاولة متعمّدة لاستغلال الصيادين في وقت محنتهم وهكذا، كما يلي النهبُ الحروبَ، لحق الـ (تسونامي) الثاني سريعاً بـالـ (تسونامي) الأوّل. قال لي كومارا: (لقد عارض الشعب هذه السياسات بشراسة في الماضي، لكنه الآن يتضور جوعاً في المخيمات، ولا يفكر سوى في كيفية البقاء على قيد الحياة حتى اليوم التالي. هم لا يملكون مكاناً ينامون فيه، ولا مكاناً يعيشون فيه. لقد فقدوا مصادر رزقهم، ولا يعرفون كيف سيعيلون أنفسهم في المستقبل. تقدّمت الحكومة بخطتها في هذه الظروف بالذات. لكن، حين سيستيقظ الشعب من كابوس الـتسونامي سيكتشف ما قد تقرّر، وسيكون الضرر قد لحق بالبلاد)".

 

قامت بعض الدول بتطبيق العلاج بالصدمة على شعوبها المسكينة، ابتداءً بتشيلي ومروراٌ بإندونيسيا والأرجنتين والبرازيل وروسيا ووصولا إلى العراق وحالياً السودان، جميعها كانت نتائجها كارثية. كانت البداية في تشيلي، بلد شيوعي يمتلك اقتصاد مزدهر في الخمسينات والستينات؛ عندما قررت أمريكا أن التقدم هذا قد يهدد مصالحها، وأحسّت بضرورة ضرب الاقتصاد التشيلي وإقصاؤه. فبدأت بالتعليم وأخذت مجموعة من الطلاب التشيليين وقامت بتعليمهم في جامعة شيكاغو تحت إشراف الرأسمالي ميلتون فريدمان، وزرعت فيهم بذور رأسمالية عقيدة الكوارث، وفي الوقت ذاته كانت تجري انتخابات رئاسية في تشيلي، فتحركت أمريكا وطبقت العلاج بالصدمة عن طريق الطلاب التشيليين الذين تعلموا على يد فريدمان، حيث دعمت الإضرابات العمالية، وخلقت اضطرابات في البلد، وقامت بانقلابات عسكرية فاشلة عام 1973.

 

ظهرت النتيجة المريعة بعد عام واحد فقط، حيث بلغ التضخم 375 بالمائة، ويعتبر أعلى معدل تضخم في العالم في ذلك الوقت، حتى أن الأسر متوسطة الدخل أصبحت تنفق حوالي 74 بالمائة من دخلها لشراء الخبز فقط، وأصبحت الطبقة المتوسطة فقيرة وبالمقابل أصبح الأغنياء أكثر غنىً وثراء. وأصبحت تشيلي بلد ذات سلطة طاغية يحكمها الديكتاتور العسكري (بيونشيه) بمباركة من أمريكا، والذي بقي مسيطراً على الحكم لمدة 17 سنة!

 

إن هذه النظرية والنزعة الأيديولوجية قد خدمت بنجاح مصالح الحكومات والشركات الكبرى في المجتمع على مدى نصف قرن، رغم أنها بدأت بالتلاشي بسبب زيادة وعي الأفراد والمجتمعات بمـا وراء السياسة الرأسمالية. والسؤال الآن هل السودان واقعٌ في فخ العلاج بالصدمة؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.