شعار قسم مدونات

كيف شوهت وسائل التواصل معاير الجمال لدينا؟

blogs قتاة

إنّ الجمال شيءٌ نسبيّ بالنسبة للناس وغالباً ما يُقاس بمنظور العين التي يتفاوتُ تقديرُها له من شخصٍ لآخر، أمّا بالنسبة لي فهو شيءٌ ثابتٌ ثباتَ الجبال في الأرض، بل وتزدادُ قيمته كلّما صار ضارباً في القِدَم، وكلّما كان وقعهُ أكبر على قلوبنا. لكن هل سألنا أنفسنا ذات يومٍ إنْ كان تغيّر مفهوم الجمال بتغيّر العصور وتطورها؟ وهل ستفقدُ الأشياء جمالها عندما يحلُّ البديل محلَّها؟! وإلى أيِّ حدٍّ جعل التطور حياتنا جميلة؟

 

إنّ أسئلةً كهذه تقودُني إلى مقارنة حتميّةٍ لمعرفة الإجابة التي أبحث عنها، لكن بدايةً لا بدَّ من التسليم والقول أنّ العالم شهِدَ في الآونة الأخيرة تطوراً مُطّرداً في شتى مجالات الحياة، خاصة في المجال الذي التكنولوجيّ بُعَيد اختراع الآلات والحواسيب وغيرها؛ مما سهّل على الانسان القيام بالكثير من الأعمال وابتكار أعمالاً جديدةً ما كان يفكر أنّه سيقومُ بها ذات يوم، وأنّها لم تكن لتُوجد لولا هذا التطور الهائل، وقد زادت حدّة هذا التطور بعد ظهور الإنترنت الذي جعل من العالم "قرية صغيرة" كما يصفه الكثيرون، وأحدث فروقاً مهولةً لا يُمكن تجاهلها أو غضّ الطرف عنها خاصة في مجاليّ الاتصال والتواصل.

 

التطوّر الذي حدث بهذه السرعة القياسية قضى على الكثير من معالم الجمال التي كانت تُبهرنا وتحفّ قلوبنا بالحبّ والدهشة

لقد ازدادت سهولة الأمر بشكلٍ صارخٍ خاصّة بعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي إبتداءاً بفيسبوك وانتهاءاً بسناب شات ليصبح أمر التواصل أسهل من الخروج للتسوّق! إنّ هذا التطور الكبير طغى على تعاملنا وتواصلنا وطريقة حياتنا لنُصبح محكومين له مُنقادين خلفه مع مرور الوقت، فصار الواحد منّا يقضي وقته في التواصل مع هذا وذاك، يحادثهم ويشاركهم لحظاته من خلف شاشة صغيرة دون أن يُكبّد نفسه عناء الخروج من غرفته أو بيته للقاء أحدهم، وهذا -بالنسبة لي- أحد مساوئ التطوّر الذي جعل المشاعر تنتقل على هيئة معلومات رقمية تفقد قيمتها وتثير حفيظة الطرف الآخر كلّما تأخر وصولها أو الردّ عليها.

 

على النقيض من هذا أو لنقُل في صورةٍ مُقابلةٍ لهذا العصر نجد أنّه في سالف العصرِ ولنقُل في الستينات مثلاً أو السبعينات كان التواصل بين الناس يأخذ شكل الرسائل الورقية التي يتمّ إيصالها من خلال ساعي البريد، أو التلغراف، أو البوسطة التي تأخذ ما يزيد عن أسبوع لتصل إلى صاحبها، فكان بعض الجمال يكمن في لهفة الانتظار تارةً، وتارةً أخرى في رائحة الرسائل نفسها التي تُحرّك القلب قبل أنْ تُحرّك الشفتين أثناء القراءة، وتحي الحنين للغائبين وأصحاب المسافات، فنعانقهم في كلماتهم والورق.

  

هذا على صعيد التواصل بين الأشخاص، وإذا بحثنا في أمر مشابه كالاحتفاظ بالمعلومات أو تخزين التفاصيل والذكريات مثلاً نجدُ أنّ الطفرة التي حصلت قد شملت الكاميرات الرقميّة والتقنيات العالية الدقة، ففي التقاط الصور والاحتفاظ، بها كان الشخص قديماً يلتقط صورة تذكاريّة أو اثنتين يحتفظ بها أحبّته أو أهله أو أصدقائه لتبقى تُرافقهم على مرِّ الزمان، أمّا اليوم فترى الواحد يلتقط عشرات الصور في اليوم دون أنْ يأبه بها أحد!! فبَهَتَ جمال الصور وفقدت اللحظات معناها وما فيها من قيمة.

 

الأمر نفسه ينسحب على الإحساس الذب صارت تتحكّم به التكنولوجيا، فنرى أن ضياع جزءٍ كبيرٍ من التفاصيل وجزئيات الجمال قد أفقده الكثير من معناه فالأغاني القديمة كانت تحمل جمالا ورونقاً ختصاً إلّا أنّه صار يبهُت مع مرور الوقت نتيجة الابتذال والاسفاف الذي وصلنا إليه في العصر الحالي، ومن هنا أقول أنني لا استطيعُ أنْ أُنكِرَ جماليّةِ كلماتِ بعضِ الأغاني المُحدَثة في هذا العصرِ، لكنَّني أشعرُ بطريقةٍ ما أنَّها مُبتذلة أجل إنها مبتذلة ومُتاحةٌ بشكلٍ يجعلُكَ تعيشُ إحساسَ الأغنيةِ أيّاً كان، وما أنْ تنتهي آخرُ كلماتِها حتى يرحلُ عنكَ إحساسها المُرافق، أي أنّ جمالها باهتاً لا يحمل ذاك الجمال الذي كنا نستمتع به إذا سمعنا أغنية على الراديو لعبد الحليم حافظ أو أم كلثوم فالأغاني القديمةِ على عكس المُحدثة، مُحاطةٌ بهالَةٍ من الصدقِ الشُعوريِّ الذي تفتقدُهُ الأغاني المُحدَثة، إذ تبعثُ فيكَ الأولى إحساساً يسرقُكَ منكَ، يُحلِّقُ فيكَ عالياً، ويجعلُكَ تتعايشُ مع ألحانِها وكلماتِها كأنَّما كُتبت خصيصاً لكَ! فجماليّةُ القديمِ تكمنُ في أنَّه مُعتّقٌ كخمرةٍ يُسكِرُكَ لونُها قبل طعمِها، أمّا المُحدَثُ فهو عابرٌ على عجلٍ كالقطارِ ما أنْ يمرُّ حتّى يتبعهُ آخرُ فيمحوَ أثرَهُ ولا يبقى منهُ سوى الآثارُ الباهتة.

 

إنّ التطوّر الذي حدث بهذه السرعة القياسية قضى على الكثير من معالم الجمال التي كانت تُبهرنا وتحفّ قلوبنا بالحبّ والدهشة، فجُلُّ ما كنا ننظر له بشغف وحب، وكلّ ما كنا ننتظر قدومه بلهفة طغى عليه جُمود التطور وأفقده جزءاً من قيمته ومعناه، ومن هنا صرنا نفقد الشغف به شيئاً فشيئاً في ظل انسياقنا مع هذا التطور ولهثنا خلفه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.