في سوق الأفكار، كثيرون يهتمون بالتفاصيل، وآخرون يهتمون بالمظهر الخارجي وقليلون يجمعون الخصلتين. فالمظهر العام تصنعه التفاصيل ولكن لا غنى عن أحدهما إن أردنا نتيجة إيجابية. لا يسَعُك ونحن على أعتاب الذكرى الثامنة لثورة يناير إلا أن الغالبية العظمى غرقت أو أغرقت نفسها طواعيةً في التفاصيل دون التحقق من الصورة المتكاملة الأطراف.
المشهد يعبِّر عن نفسه بعد ثمان سنوات وبعد أحداث جرت وتجري وتسريبات خرجت وتخرج. ومع هذا أهل التفاصيل لا يريدون أن يضعوا القطع المتناثرة مجتمعة ليروا الصورة بطريقة أكمل. ربما يكون مستحسناً أن نذكر أننا هنا نحن أبناء المهجر استيقظنا يوماً على أنباء ثورة بالوطن. بالتحديد في يناير ٢٠١١. وقتها لم نصدق أسماعنا (ثورة تقول؟ مش معقول!!). لم تهمنا التفاصيل بقدر ما أهمنا هو أن رحمة الله قد غشيت الأنفس البائسة ويبدو أن فيهم من استحق أن يمد الله له يد العون. لا أظن أنه بعد ثمانية أعوام مضت أن المصريين عرفوا أو يعرفون قدر ثورتهم كما نعرفها نحن على آلاف الأميال. هذه ثورة أحبها القاصي وكرهها الجار الداني. الأميركيون هنا طاروا بها.. وصدّقوني فقد أحبوها حباً عظيماً. فكانوا يصافحون رموزها الزائرين من الشباب باعتبارهم أبطالاً يكتبون تاريخاً جديداً لحركات التحرر.
| نحتاج أن نتعلم أن هناك قواعد في تصنيف الرجال وبالذات ممن يعرفون بالنخبة. إنك لا تحتمل أن تختبر مصداقية الرجل مرتين فهذه مقامرة خاسرة. ربما نعطي فرصة أخرى لمن أساء تقدير المواقف لكن المصداقية هي معدن الرجل |
الشباب هنا قلدوهم واعتصموا بشوارع (وول ستريت) وافترشوا الأرض ليصنعوا ميدان التحرير بمدينة نيويورك. كتبوا عنه وما زالوا يكتبون عن جمال المصريين وعظم تضحياتهم وخاصة نزول المرأة المصرية بنفسها لتقود أبناءها وإخوانها في معركة تحديد مصير وطن. الذي لم يعرفه الأميركيون أنه في مقابل جيل قابل بصدور عارية جحافل عسكرية ضارية لأنهم آمنوا أن طريق الحرية لا بد له من تضحية.. كان هناك جيل آخر يكره أن يرى تغييراً حقيقياً دون أن يكون لهم في الكعكة نصيب. هم يرون أنهم مميزون في هذا الوضع المتخلف ولم يدركوا أنهم على حافة المزبلة وآخرون في قاعها. فخذلوا أبناءهم وشهداءهم.. فلا ماضٍ يحفظون ولا حاضر يسعدون ولا مستقبل يصنعون. لا أهتم بتعليمهم أو إقناعهم أو مجرد الالتفات إليهم.. أمثالهم في كل مكان بالدنيا ومآلهم أنهم يتبعون الغالب القوي فدعوهم وما هم عليه.
الآن نضع معاً حروفاً تحت النقاط لعلها تظهر الصورة المتكاملة بوضوح:
أولاً: لا بد أن يتصارح المصريون بالداخل أن العفوية كانت وما زالت الشعار. فالناس نزلت يوم ٢٥ يناير ولم تكن في نيّتهم أن يستمروا إلا سويعات. ربما ليوم أو يومين على أكثر تقدير. ولكن ثورة متعددة الجوانب ومتجانسة المعالم.. لا أظن أن هذا حدث ومجريات الأمور تبرهن على هذا. دعونا نسميها (بروفة ثورة).. وأقول إنها بروفة ناجحة ورائعة للغاية. لماذا أقول هذا والآن تحديداً؟ لأننا نحتاج أن نضع أرجلنا على أرض صلبة ونعرف أن أعماراً تفنى وأروحاً تزهَق بغير طريق واضح يسلكونه يعرفون مدخله ومخرجه قبل الولوج فيه. هذه المدونة لا أريد منها أن أنكأ جراحاً بقدر ما أريد أن أطهرها من صديد يحول دون التئامها وتعافيها. فلا بد أن نقر أن المصريين بداخل مصر فوجئوا بالثورة مثلهم كغيرهم ممن يعيش خارج الوطن. فهوِّنوا على أنفسكم حملة التلاسن والتخوين. كلكم اجتهدتم الأمر فأصبتم أحياناً وأخطأتم أحياناً أخرى. فاغفروا لأنفسكم ولغيركم فالطريق طويل والزاد قليل.
ثانياً: نحتاج أن نتعلم أن هناك قواعد في تصنيف الرجال وبالذات ممن يعرفون بالنخبة. إنك لا تحتمل أن تختبر مصداقية الرجل مرتين فهذه مقامرة خاسرة. ربما نعطي فرصة أخرى لمن أساء تقدير المواقف لكن المصداقية هي معدن الرجل لا تستطيع تغييره بعد أن شاب الرأس. وعليه فإن تدوير أو إعادة ترميم ما يسمى بالنخبة المصرية يحتاج لنظرة ذكية بها تستغني عن كثير من الهراء القائم.
ثالثاً: الوقت يداهمنا.. ومَن لا يدرك قيمة الوقت فليتأخر قليلاً ويتح لمن هو أكثر حكمة أن يتصيد الفرص ليأخذ قرارات تسهم في وقف النزيف ورأب الصدع. أقول (إن الوطن يا مصريون كالوردة ربما تنحني عطشاً للماء ولكن إذا ذبلت وسقطت أوراقها فهي لا محالة تموت. الوطن يذبل ليس فقط عطشاً ولكنه يذبل أيضاً إذا رويته ماءً ملوثاً).
أخيراً من هنا بأمريكا.. عضو الكونجرس جون لويس (عن مدينة أتلانتا – ولاية جورجيا) اختصر لكثيرين موقفهم المتلجلج من زملائه عن تأثير الحكومة الروسية على نتائج الرئاسة الأميركية بعد الاطلاع على تقرير وكالة الاستخبارات الأميركية فقال على شبكة (إن بي سي) يوم الجمعة ١٣ يناير ٢٠١٧ إن الرئيس المنتخب (دونالد ترامب) رئيس غير شرعي. جون لويس بثقله كأحد رموز حركة مارتن لوثر كينغ ضد التمييز العنصري والكفاح للحصول على الحقوق المدنية لم يجد في حلقه إلا هذا التوصيف المزعج لترامب. طبعاً سترينا الأيام إلى أين سينتهي هذا التقرير.. ولكن إلى هذا الحين فالرئيس الأميركي منتخب بإرادة شعبية في انتخابات شفافة إلى أن يثبت عكس ذلك.
ونحن نتعلم ألف باء ديمقراطية أقول أن الصندوق هو أول وآخر الديمقراطية. ومن يزعم أن الصندوق ليس كل شيء فهو جاهل مغرض. ترتيب مؤسسات الحكم وع تصنيفها هي نتائج الصندوق الإنتخابي الحر. وتبقى النقطة هنا هي الحديث عن الشرعية ولأن هناك مَن يتفادى الحديث عن شرعية الرئيس مرسي وأحقيته في العودة إلى كرسي الحكم.. فإن شرعية الدكتور مرسي (في رأيي) تمثل نقطة الالتقاء لمن يريدون أن يقفوا على أرضٍ صلبة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.