قديماً كانت القوة العسكرية والخطة المحكمة من أهم أسباب ترجيح كفة الصراع لصالح طرف على حساب الآخر، المعادلة واضحة.. قوة عسكرية قوية وإستراتيجية وخطة محكمة تساوي انتصار، لكن هذه المعادلة لم تعد كافية في العصر الحالي لحسم الصراع، لعوامل متعددة لعل أهمها التطور التكنولوجي والمعلوماتي الهائل الذي يتسارع بشكل مطرد. ستظل أهم عناصر نجاح أي كيان هي قوة استراتيجيته وتكتيكاته، ودراسته لمنهجية خصومه ومنافسيه ما يجعله أقدر على المناورة التي تزيد من فرص نجاحه.

       

تخيل أن لديك مبلغاً من المال تسعى لاستثماره في مشروعٍ ما، ودخل أحد اللصوص منزلك وقام تحت تهديد السلاح بسرقتك هنا استخدم هذا اللص قوة صلبة متمثلة في عملية السطو ذاتها وفي تهديده بالسلاح، لكنه ومن جهة اخرى، إن كنت تحتفظ بهذا المبلغ في حسابك البنكي واستدرجك أحد المخترقين وزور بياناتك ومن ثم سرق حسابك. هنا استخدم هذا اللص ما يعرف بالقوة الحادة والتي تتمثل في استخدامه للأدوات الحديثة من تكنولوجيا ومعلومات لسرقتك.

   

وأخيراً تخيل أنك قابلت شخصاً أقنعك بفكرة مشروعٍ تستطيع أن تستثمر فيه أموالك وأعطيته أموالك لكي يستثمرها وبالفعل حقق وعده لك فأجبرك بأمانته بوعده على احترامه وتدريجياً أصبحت هناك ثقة بينك وبينه غالباً ما ستتطور بشكل إيجابي مستقبلاً، هنا يكون هذا الشخص قد استخدم ما يعرف بالقوة الناعمة لجذبك له، فالقوة هي القدرة على التأثير لتحصيل ما تريد، سواءاً كانت قوة صلبة تتبنى سياسية الترهيب والترغيب (العصا والجزرة) أو حادة تتبنى سياسة الخداع والتضليل باستخدام المعلومات والتطور التكنولوجي، أو ناعمة تتبنى سياسة الجذب ومن ثم الإقناع.

    

في الحرب العالمية الثانية أدى إغفال الإتحاد السوفيتي أهمية القوة الناعمة كأحد ركائز الصراع إلى التفكك والانهزام رغم قوته العسكرية الصلبة التي لا يستهان بها آن ذاك. في المقابل كانت أمريكا تعي أهمية القوة الناعمة بالإضافة لقوتها العسكرية الصلبة فكانت الأفلام وموسيقى الروك وغيرهما من الأدوات الناعمة التي نفذت إلى قلب المجتمع السوفيتي محدثة حالة من التخبط المجتمعي وتأليب الشعب السوفييتي ضم حكامه.

  

واليوم روسيا تجيد تحقيق التناغم بين استراتيجيات القوة، فروسيا اليوم تختلف عن سوفييت الأمس، وعلى الرغم من قوتها الصلبة العسكرية التي لا يستهان بها، إلا أن لها اهتمام مولع بالقوتين الناعمة والحادة. استعملت روسيا القوة الحادة لتغزو أمريكا دون أن تطلق رصاصة واحدة، فما يحدث الآن من حروب داخلية بين مؤسسات الولايات المتحدة الأمريكية كان أحد أهم أسبابها هو التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية وذلك وفقاً لإستراتيجية القوة الحادة التي تتبناها.

  

حتى أواخر عهد أوباما كانت أمريكا تحتل المركز الأول عالمياً في اعتماد أدوات حقيقية تنسجم مع إستراتيجية القوة الناعمة، فوفقاً لمؤشر قياس القوة الناعمة الذي تصدره مؤسسة بورتلاند البريطانية، كانت أمريكا تحتل المركز الأول عالمياً في عام 2015 وتراجعت في عهد ترامب لتصبح المركز الرابع عالمياً في العام 2018.

  

اعتمد نهج ترامب على التركيز على قوة أمريكا الصلبة وفقط، فهو لا يولي الاهتمام الكافي بالقوتين الناعمة الجاذبة أو الحادة الرقمية، في الوقت الذي تولي فيه دولاً مثل روسيا والصين اهتماماً كبيراً جداً بالقوتين الحادة والناعمة فضلاً عن الصلبة.

 

يتفاوت إلمام دول الشرق الأوسط بوعيها بأدوات الصراع الحديث، فبنظرة على هياكل الدول وبرامجها وموازنتها تستطيع أن تعرف مقدار وعيها بأهمية إستراتيجيات القوة. في مايو 2017 قامت الإمارات بتأسيس ما سمته "مجلس القوة الناعمة" والذي يتبع لمجلس الوزراء الإماراتي، وانعكس ذلك على تفعيل أدوات القوة الناعمة.

 

فبنظرة سريعة تجد أن الإمارات قبل عام قامت بتأسيس مركز الشباب العربي الذي يقوم -وفق تعريفهم له- بالعمل مشاريع ومبادرات إستراتيجية للشباب العربي ومتابعة تأثيرها في الدول العربية. برامج القيادات الإعلامية العربية الشابة تلك، تقوم من خلالها باستضافة وتدريب 200 إعلامي من شباب الوطن العربي، وغيرها من المشاريع التي تعد استثمارا ناعماً سيحصد نتاجه لاحقاً.

 

ساهمت حالة التناغم والتكامل بين إستراتيجيات القوة بأنواعها في وفرة أدوات الصراع، فكوريا الشمالية -مثلاً- على الرغم من أنها تعاني من حصار اقتصادي دولي تبنت إستراتيجية القوة الحادة التي أسفرت في عام 2017 عن اختراقها لمنظومة الصحة في بريطانيا وعدة دول أوروبية أخرى بشكل وصفه البيت الأبيض بأنه الأكثر تدميراً وتكلفة في التاريخ.

  

إذ تعطلت جميع سجلات المرضى بشكل كامل في أكثر من مدينة بريطانية وأوروبية وكان كل ذلك بهدف الحصول على أموال تساعد في تقوية الاقتصاد الكوري الشمالي (تقوية قوتها الصلبة). ولعل أكثر ما يشغل وزراء المالية ومدراء البنوك المركزية في معظم الدول الآن هو تخوفهم من تكرار تلك الهجمات الحادة وبشكل أكثر تطوراً وأكبر تأثيراً.

 

إن الوعي باستراتيجيات القوة وتنوعها وتحقيق التناغم بينها ومن ثم تحديد التكتيكات واختيار الأدوات الأنسب لكل حدث وموقف هو صمام الأمان وضامن النجاح لأي كيان في هذا العصر. نحن في عصر وصفة رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو بأنه و "بضغطة زر واحدة تستطيع تركيع أمة بأكملها"، فإن كنت تعتقد أنك ككيان أو دولةً أو تنظيم على حق، فاعلم أنه لابد للحق من قوة صلبة وحادة وناعمة تحميه، أو اترك الملعب واجلس على مقاعد المتفرجين حتى يأتي دورك كضحية، فلا مكان في ملاعب اليوم للدَقّة القديمة