شعار قسم مدونات

امسكوا يد التشريع.. وابسطوا يد التربية

BLOGS مجتمع

"إذا انتشرت الاختلافات، الاختلالات والاختلاقات في أمة.. فأمسكوا يد التشريع وابسطوا يد التربية"

– علي عزت بيجوفيتش

هكذا يقول الفيلسوف علي عزت بيجوفيتش في كتابه الإعلان الإسلامي، هنا علي عزت يتحدث عن أهمية دراسة أحداث الواقع والتفاعل معها وعدم اللجوء لسلطة القانون لجعل الهدوء يسيطر على المشهد مرة أخرى حين تختلط الأمور.

أمسكوا يد التشريع وابسطوا يد التربية

جملة بليغة، تصف معنى تربية المجتمع.. تربية فكرية تسعى لغرس القيّم التي تنظم الاختلافات ولا تلغيها، هذه القيّم تكون بمثابة معيار حضاري ومرجعية حضارية تحدد الصواب والخطأ عند اختلاط الأمور وتشابك المسائل. يد التشريع تعني اللجوء لفقه الطاعة وتطبيقه، بينما يد التربية تعني اللجوء لفقه الشورى وتطبيقه.. مخرجات فقه الطاعة إما انقياد أعمى أو استبداد ظالم، أما مخرجات فقه الشورى وعي وأفكار تقدميّه تتفاعل مع معطيات الواقع وتزنها بميزان الشرع فتستنبط أحكام تناسب الواقع.

وقد أدرك المسلمون الأوائل أهمية هذه التربية، فسعوا لغرس مفاهيم أساسية وقيّم حضارية أصبحت نموذجاً ومقياساً لكل عصور، عبر عنه المسلمون "بالخلافة الراشدة".. لعل أهم قيمة كانت الشورى الشاملة بوصفها آلية تراض بين أبناء الأمة، هذه القيمة تجمع جميع أطياف المجتمع تحت مظلة العدل وتشعر الجميع بأنه جزء فعّال، يساهم في القرار، ويشترك في العملية الحضارية.

المنبوذون والمهمشون هم المادة الخام التي يصنع منها مستقبل الأمة، أي أن الحجر المنبوذ في الشارع يصبح حجر الزاوية في عالم جديد

يد التربية تعيد تأهيل أفراد الأمة فكرياً ونفسياً، هذه هي اليد التي أخرجت حضارة إسلامية من بيئة متناحرة.. تعيش الحرب كوضع طبيعي وتستهلك الإنسان في اللاشيء. يد التربية هي يد القرآن الذي أيقظ ضمائر العرب، فأحسوا بأنهم أمة جديدة…لديها ما تقدمه للعالمين، وأحسوا بذاتهم وقدرهم (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).. ورتب عالم أفكارهم، فصحح تصوراتهم عن الكون والحياة الدنيا والآخرة، وأقام العالم على أسباب موضوعية.. على المسلم أن يبحث عنها في كل مجال.

يد التربية تجعل المسلم يؤمن بأنه صاحب دعوة لا طالب غنيمة، ورسول رحمة لا نذير نقمة، وداع سلام لا بوق حرب، ونصير حق وعدل لا عون باطل وظلم، وأن مهمته أن يأخذ بيد الإنسانية الحائرة إلى هداية الله، وأن يصل الأرض بالسماء. اليد التي جعلت المسلم يؤمن بأن الإسلام الرسالة الحضارية لإنقاذ البشرية، وتحرير الإنسان، كل الإنسان. يد التربية تجعل الإنسان يتحرك نحو التغيير مدفوعاً برغبته وإيمانه بضرورة التغيير، أما يد التشريع تجعل الإنسان يتحرك نحو ما يريد المُشرع مدفوعاً بالخوف ومسلوباً الإرادة وحرية القرار.

يد التربية تفتتح الآفاق لأبناء الأمة ليمارس الجميع دوره، ولتتحرك خميرة التغيير في المجتمعات.. الخميرة التي تحدث عنها إيريك هوفر في كتابه المؤمن الصادق قائلاً: "يؤدي الاشخاص المتفوقون عقلياً دوراً كبيراً في قيادة الأمة، سواءاً في السياسة أو الأدب أو العلم أو التجارة أو الصناعة… إلا أن الاشخاص الذين يقفون في الجانب الآخر؛ الفاشلين والعاجزين عن التأقلم والمنبوذين والمجرمين، وكل الذين فقدوا توازنهم أو لم يكن لديهم توازن أصلاً، يؤدون أيضاً دوراً كبيراً.

إن مسرحية التاريخ يمثلها عادة طرفان، الصفوة من جانب.. والغوغاء من جانب آخر، دون مبالاة بالأغلبية التي تقع في الوسط. المنبوذون والمهمشون هم المادة الخام التي يصنع منها مستقبل الأمة، أي أن الحجر المنبوذ في الشارع يصبح حجر الزاوية في عالم جديد، أن الأمة التي تخلو من الغوغاء هي التي تتمتع بالنظام والسلام والاطمئنان، ألا أنها أمة تفتقر إلى خميرة التغيير. لم تكن سخرية من السخريات.. أن المنبوذين في بلاد أوروبا هم الذين عبروا المحيط لبناء مجتمع جديد في القارة الامريكية، بل كان هذا هو الشيء الطبيعي." والسؤال هنا.. كيف للمنبوذ أن يكون خميرة التغيير أو المادة الخام لصناعة مستقبل الأمة؟! الشعور بالقيمة هو الدافع للتغيير والسعي في الأرض؛ المنبوذ يفتقد هذا الشعور لذلك حين تأتيه الفرصة ويجد لنفسه غاية يبذل من اجلها النفيس.. يبادر أكثر من غيره؛ مستجيباً لنداء المهمة التي خُلق من أجلها.. مهمة "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.