شعار قسم مدونات

ماذا لو فقدَ قلبُكَ بعضًا من نبضه؟

blogs - sunset

الموتُ في عالمِ الأحياءِ.. تلكَ النهايةُ العظيمة، النهايةُ التي بعدها ينْتهي السطّرُ وتُوضَعُ النُقطةُ وضعًا أخيرًا.. فيُغلقُ الكتابُ وكأنّ حِبرَه قدْ جَفّ للأبد. روحٌ خرجتْ بمشيئةِ خالقها وتركتْ جسدًا كمادةٍ هامدة، مادة كانتْ تتحركُ تتحدثُ تُشاركُنا الطعامَ.. والآن ترقدُ في لَحد مُعتمٍ تحتَ التراب، لا ندري نحنُ ما يتبعُ ذلكَ بعدُ من أقدارٍ إلاهيّة ومشيئة، ولكنّنا ندري أنّ العزيزَ قدْ رحل وأثرُه باقٍ يعيشُ فينا، وروحه مُعلّقة نشعرُ بها ما أحْيانا ربُّ العِباد.

فقدْتُ والدي وقُرّةَ عيني منذُ عامٍ وسبعينَ يومًا وأشعرُ كأنّه البارحة، قلبي مشتاقٌ حزينٌ وروحي تطلبُ لُقياه وحديثًا معه، ليضمّني ويخبرني مرّةً أخيرةً بصوته الحنون "الله يرضى عليك يا بنتي ويوفقك". أذكرُ ذاكَ اليومَ وكأنّه أمامي الآن، فهل للأحداثِ البشعةِ القاسية أن تُنسى؟ تُحفرُ بلحظاتها المقيتة كلّها في الذاكرة حفْرًا عميقاً فلا تُعادُ تُفقَدُ أو تتلاشى أبداً. حاجزُ ضبابٍ أسودَ دَاكنٌ وقْتها غطّى عينيَّ بإحكام فلمْ أرى أيَّ شيءٍ ممّا حولي، قيّدتني أصفاد فولاذيّة ولمْ أَقْوَى على الحركة أو الحديث.

أتى ذاكَ الصوتُ الذي يُغلِق الآذانَ فلم أسمعْ سوى طّنين مزعج، شعرَ قلبي بالضَعْف وعدم الحيلة، وجاءني ذاكَ الوهنُ الذي يكسرُ الروحَ والنفسَ وغدوتُ أقولُ والدَمع ينْهمرُ كَنَبْعٍ أبى النضوب "ماذا حدث؟ هل حدث هذا فعلاً؟ لا أتنفّسُ الهواءَ الآن ولا أشعرُ بأيٍّ مما حولي، وهل أنا فعلاً هنا؟ كم لبثْنا نحنُ حتى هذا اليوم؟ لكنّ ساعةَ الزمنِ تتمرّدُ وتقسو علينا ولا تأبى إلا أن تجري مجرى النّهر المتدفّق بلا أيّ توقّف أو مَهل، والحياةُ بأحداثها تستمرُّ وتَعُدُّ الساعاتِ والأيامَ وتبقينا نحنُ ننام على حافّة ميناءِ ننتظرُ سفينةً أبحرتْ بلا رجعة.

قفْ على قدميّكَ واجمعْ رباطةَ جأشك ولو أرهقتكَ الأحداث والأيام، قاتلْ صديقي وكأنّ العالمَ اليومَ أرضُ معركتكَ الأخيرة.

كُلّنا راجعونَ إليكَ يا الله، أنت القويُّ ونحنُ الضعفاء. لا حيلةَ لنا دونكَ ولا قوة، وحدْكَ تعلمُ الغيبَ والأقدار، وكما تقولُ أمّي دائمًا سبحانَ الله القاهرِ عبادهِ بالموت. الحمد لله الذي خلقَ الصبرَ ومدّنا به يُعينُ أرواحنا الحزينة، الحمد لله الذي يكسبُنا القوّةَ لنحيا ونُجاري الأيام بعدَ كسرٍ أليمٍ للروح، الحمد لله على رحمته التي وسعتْ كلّ شيء.

إلى كلّ أمٍ أبٍ زوجٍ ابنٍ وابنه، إلى كلّ روحٍ فقدتْ روحًا كانتْ تمدُّها الحياةِ والفرح.. هكذا الدنيا بحالها، دولابٌ ضخمٌ يدور، دورٌ للأفراحِ وآخرُ للأتراح، يومٌ ترى نفْسكَ بالأعلى فرحًا بين السحابِ تُراقصُ الهواءَ وتُغنّي بلا كلماتٍ وتعزفُ موسيقى سعيدةً حدَّ النشوةِ مع من تُحب.. تنظرُ إلى كلّ ما حولكَ من الدنيا بقلبٍ مُبتهجٍ لا ينسى شُكْر القديرِ الذي بيده مَلكوت كلّ شيء، تغمرُكَ المشاعرُ وكأَنّك أمٌّ حضنتْ مولودَها الأول، وكأنك عاشقٌ محبوبُكَ هنا بعدَ غيابٍ طويل، وكأنّك ناسكٌ جاءَ فَرَجُ ربّك القريب.

تدقُّ ساعةُ الرجعةِ وبين لحظةٍ ولَحظة يدورُ الدولابُ مرّة أخرى وتجد نفسكَ صُدمتَ في القاعِ المؤلم، وكأنّ طلقةً أصابتْكَ في الصميم، تفقدُ نفسكَ روحكَ وبعضًا منْ نبضِ قلبكَ المسكين، ولا تقوى على شيء مما يُحيطُك، لا تدري من أينَ أتى هذا وكيفَ النجاة. وأيامٌ تشعرُ أنّ سلاسلَ صَدئةً قد جاءتْكَ من العَدم أحاطتكَ بلا أي أقفال، سلاسلَ هي الاكثرَ تحطيمًا باعتقادك الغبيّ العديمِ للصبر وتظنُّ أنها النهاية.

قفْ على قدميّكَ واجمعْ رباطةَ جأشك ولو أرهقتكَ الأحداث والأيام، قاتلْ صديقي وكأنّ العالمَ اليومَ أرضُ معركتكَ الأخيرة. لا تفقدْ صبركَ وثقتكَ بالخالقِ الكريم ولا تُخبرني أنّكَ تستخدمُ النسيانَ لتُخفّفَ من آلامك وأحزانك. تذكّرْ أنّك مكافحٌ وسطَ كلّ هذه البَشاعةِ الانسانيّة، تمسكْ بنفسكَ وكأنّك تنقذُها من حافةِ جَبلٍ كانَ على وشكِ الانهيار، اصنعْ بعزمك وإصراركَ قوّة تُعينُك.. أنت أعظمُ من أنْ تستسلم.. أنت أعظمُ من أنْ تفقدَ الحياةَ وقلبك لا يزالُ ينبض..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.