شعار قسم مدونات

أزمة اقتصادية أم سياسية.. السودان وسوار الذهب المفقود

blogs السودان

يقول الطبيب الفرنسي فرانز فانون المناهض لاستعمار بلاده للجزائر حتى انضم في أخر الأمر إلى الثوار بعد أن أدرك بشاعة فكرة الاستعمار وقبحها فسطر كتابه معذبو الأرض الذي يعتبر مرجعا في فلسفة الاستعمار وعلاقة المستعمر الغاشم بالمستعمر المحتل قائلا: "وعلى الصعيد الداخلي وفي الإطار الدستوري نجد البرجوزاية تبرهن على فشلها أيضا فترى النظام البرلماني فاسدا فسادا عميقا وهي ضعيفة اقتصاديا إنهما لا تمتلكمان راحة البال والطمأنينة التي توفرهما لهما القوة الاقتصادية والهيمنة على نظام الدولة إنها لا تخلق دولة تطمئن المواطن بل تقيم دولة تثبت القلق في نفس المواطن وتفهمه أنه في خطر دائم".

إن نظام الحزب الواحد هو الشكل الحديث للدكتاتورية التي لا تتقنع لا تتزين ولا تتوزع ولا يردعها حياء وهذه الدكتاتورية لا تعمر طويلا ذلك واقع إن هذه الدكتاتورية ما تنفك تولد تناقضها ذاته إذ لما كانت البرجوزاية لا تملك الوسائل الاقتصادية لضمان سيطرتها وتوزيع شيء من الفتات على مجموع البلاد ولما كانت مشغولة بملء جيوبها بأقصى سرعة ممكنة وبأتفه طريقة ممكنة أيضا فأن البلاد تزداد ركودا وجمودا.

وهو ديدن القوى السياسية المختلفة والقوى البرجوازية الحاكمة التي يصنعها الاستعمار قبل مغادرته بعد أن يدرك أن رحيله بات قريبا لا محالة وأن الخروج أصبح وشيكا فيلجأ فيها لصناعة كيان برجوزاي مسيطر على مقاليد الحكم يستمر به السيطرة على البلاد التي كان قد استعمرها ويقوم بنهب ثرواتها وكنوزها ولكن عن طريق القوى التي تركها على سدة الحكم من بعده وهو يدرك ضعفها وهشاشتها وهو ما يحرص عليه فيستمر في ابتزازها والحصول على كل ما يريد عن طريق استعمار جديد ولكنه استعمار بالوكالة هذه المرة.

السودان بثرواته الزراعية الضخمة والحيوانية والمعدنية يعاني فقرا مخجلا بالنسبة لبلد يعتبر المصدر الأول عالميا للصمغ العربي وأغناها عالميا في الثروة الحيوانية ب 103 مليون رأس

تشتعل شوارع المدن السودانية هذه الأيام بعد خروج الألاف إلى الشوارع مطالبين بتغييرات وإصلاحات بدأت اقتصادية بعد أن هوت البلاد في ثقب من المشاكل الاقتصادية الطاحنة التي كانت نتيجة لخلل سياسي واضح قديم المعالم جديد الظهور ابتدأ منذ تولي حكومة الإنقاذ مقاليد الحكم في الثلاثين من يونيو في العام 1989 ابتدأت بأخطاء سياسية كارثية قادت السودان إلى عزلة إقليمية وعالمية بدأتها الحكومة بموقفها من الغزو العراقي للكويت ثم أتبعتها باستقبال زعيم تنظيم القاعدة حينها أسامة بن لادن على الأراضي السودانية وإقامة معسكرات تدريبية لها مما أسفر عن وضع السودان على قائمة الإرهاب ثم تتابعت السقطات السياسية داخليا في ملف الجنوب السوداني التي حولت من حرب أهلية إلى حرب دينية بشعارات إسلامية بعد أن كانت نزاعات بين أبناء بلد واحد انتهت باتفاقية تقرير المصير في العام 2005 وثم انفصال الجنوب في العام 2011.

 

لتكتمل أزمات السودان سياسيا بسبب الفشل في إدارة الأزمات السياسية داخليا وخارجيا وتنتهي بفشل سياسي أفضى إلى فشل اقتصادي كان نتاجا لانفصال الجنوب بثلثي مقدرات السودان النفطية والتي كانت يستعملها نظام الخرطوم في الحصول على العملة الصعبة والنقد الأجنبي بعد أن قضى على أغلب المشاريع الوطنية التي كانت تدر النقد الأجنبي لخزينة الدولة من مشاريع زراعية كمشروع الجزيرة الذي كان يعتبر أكبر المشاريع الزراعية أفريقيا وأحد أكبرها عالميا ليكون الفشل السياسي والفساد الناخر في بطون الدولة سببا لفشل اقتصادي في سلسة خبيثة هوت بالسودان إن منزلق خطير.

يقول فانون مجددا واصفا تلك البرجوزاية الحاكمة التي ما تفتأ تستولي على السلطة بعد الاستقلال: "إن اقتصاد بلادهم قد تطور بعيدا عنهم وبدون تدخلهم إنهم لا يعرفون شيئا عن الموارد الحالية ولا الموارد التي تشتمل عليها الأرض إلا أمورا قرؤوها في الكتب أمورا تقريبية فقط لذلك تراهم لا يستطيعون الحديث عنها إلا حديثا عاما عابرا حتى إذا حدث الاستقلال رأيت البلاد في حالة ركود يرثى له إنها لا تستطيع إطلاق العنان لعبقريتها".

لذلك نرى فقر وسائلها وقلة حيلتها وتحصر اقتصادها خلال سنوات طويلة على اقتصاد يقوم على الحرفة والمنتجات المحلية الخام وتصديرها وتسمع عندها خطبا طويلة عن قيمة الحرف لعجزها عن إقامة المصانع لتدر لها وللبلاد أرباحا أوفر وتحيط الحرف بعواطف العزة والكرامة الوطنية وتظل الأمور تسير كما كانت تسير من قبل حتى أن المنتجات الأساسية لا يطرأ عليها أي تغيير في طريقة استثمارها وتظل تصدر مواد أولية ويظل المواطنون يعملون مزراعين صغارا لدى أوربا وتظل البلاد اختصاصيتا في تقديم المواد الخام.

فكأن فانون في وصفه يصف حال السودان اليوم فالسودان بثرواته الزراعية الضخمة والحيوانية والمعدنية يعاني فقرا مخجلا بالنسبة لبلد يعتبر المصدر الأول عالميا للصمغ العربي وأغناها عالميا في الثروة الحيوانية ب 103 مليون رأس بينما يملك السودان أحد أكبر احتياطات الذهب والنحاس بل حتى الرمال المليئة السيلكا التي قام السودان أخيرا بتصدير كميات مهولة منها لألمانيا في أواخر العام المنصرم وهو ما شدد عليه فانون كما ذكرت في تصدير مواد خام من دون أي معالجة تدعم اقتصاد البلاد المنهار.

إذا هل الأزمة اقتصادية أم سياسية؟

تصر وسائل الإعلام على مسميات تصف بها احتجاجات السودان على شاكلة ثورة الجياع أو ثورة الخبز وكأن المحرك الأساسي لهذه الاحتجاجات اقتصادي بحت لكن الحقيقة أن الاحتجاجات التي تجوب شوارع العاصمة والمدن السودانية ما هي إلا نتاج لتراكمات لإخطاء على كل الأصعدة سياسيا خارجيا وداخليا وفشل الدبلوماسية السودانية في جميع المحافل لإيجاد شريك يقف مع النظام الحاكم في إدارة أزمة من هذه الشاكلة بعد أن فشلت سدة الحكم في إيجاد تقارب إقليمي وعربي وحتى عالمي بدت واضحة في تخبط السياسة الخارجية السودانية وتقلبها بين كل أطراف الخلاف العالمية فشلت فيها الحكومة السودانية من اللعب على جميع الأوتار لتنتهي بها في عزلة خانقة أمام حصار أمريكي وعالمي بعد إدانة بارتكاب مجازر في أقاليم سودانية كإقليم دارفور وفشل سياسي في تخطي الحظر الأمريكي وفشل كبير في تكوين شراكات قوية مع وسطه الأفريقي والعربي.

يقول الدكتور السوداني إبراهيم الأمين عبد القادر: "الدولة في السودان تضخمت على حساب المجتمع الذي أصبح مختزلا وضعيفا فالسلطة أي الحكومة هي التي تحدد سياسة التوزيع والتشخيص وبالتالي هي التي تعطي وتمنع وفقا لما يحدده مزاج صاحب القرار دون قيود أو مساءلة تسبب هذا في اضعاف هيبة الدولة وفقدان الثقة فيها فالمؤسسات الرسمية على اختلاف مستوياتها وظفت من أجل خدمة النظام السياسي القائم على حساب بقية الناس وعلى حساب المصلحة العامة فأنتج شرخا واسعا بين الدولة كهيكل تنظيمي لإدارة المجتمع وبين المجتمع عموما".

رحل سوار الذهب في أواخر العام 2018 لتخرج كل الشوارع السودانية ووسائل الإعلام العربية والعالمية في رثاء رجل خسر السلطة وتركها طواعية لكنه خلد اسمه في قلوب ملايين السودانيين
رحل سوار الذهب في أواخر العام 2018 لتخرج كل الشوارع السودانية ووسائل الإعلام العربية والعالمية في رثاء رجل خسر السلطة وتركها طواعية لكنه خلد اسمه في قلوب ملايين السودانيين
 

وهو ما يفسر فشل الدولة مع التعاطي مع المشاكل الاقتصادية السودانية فالدولة توسعت على حساب مصالح المواطن واشترك الجيش والأمن والشرطة في السوق السودانية وسيطرت على كل أغلب جوانب الحياة فيها حتى أصبحت الأزمات المفتعلة حالة متكررة تجبى به ما تبقى من جيب المواطن المغلوب نتيجة للوبيات وبرجوزاية حاكمة مسيطرة كل ما يهمها الكسب السريع ولو كان على حساب تحطيم اقتصاد بلد كامل ومعاناة شعب. ليتحدث نعوم تشومسكي بلسان بلد كامل قائلا: "لا يوجد شيء اسمه بلد فقير يوجد فقط نظام فاشل في إدارة موارد البلد".

 

خرجت الاحتجاجات التي كانت الأزمة الاقتصادية فيها هي القشة التي قصمت ظهر البعير وافاضت إناء صبر الشعب السوادني الصبور الذي لم يلجأ للعنف يوما في تجربتين اسقطتا حكومتين عسكريتين قبلا في أكتوبر 1964 لتطيح بالفريق عبود في أول ثورة على الصعيد العربي ثم تلتها ثورة أخرى أطاحت بالعقيد جعفر النميري في ثورة أبريل 1985.

أتت بأحد أحب الشخوص إلى المكون السوداني والعربي المشير الراحل سوار الذهب حب نابع من عظم وغرابة ما قام به وهو العسكري أيضا ليتخلى عن الحكومة بعد عام واحد كما وعد بعد إقامة حكومة انتقالية لتلك الفترة لتنتهي بانتخابات جرت في ذات الموعد التي حدده كما وعد لتكون مفاجأة في بلدان لم تتعود على حكام يتركون عرش السلطة إلا جثثا هامدة أو أعداء لشعوبهم انتهت بهم المصائر كما كل طاغية إما مقتولا بأيدي أعدائه أو بأيدي أبناء شعبه.

رحل سوار الذهب في أواخر العام 2018 لتخرج كل الشوارع السودانية ووسائل الإعلام العربية والعالمية في رثاء رجل خسر السلطة وتركها طواعية لكنه خلد اسمه في قلوب ملايين السودانيين تطارده دعواتهم حيا وميتا فخسر الحكم وكسب حبا أبديا يلاحق روحه إلى مهجعها. هي معادلة بسيطة قوامها حب شعب أو حب كرسي مصنوع من جماجم ذات الشعب، فهل لهم في سوار الذهب من مدكر؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.