شعار قسم مدونات

كيف نظر علي عزت بيجوفيتش إلى الأخلاق الإنسانية؟

علي عزت بيجوفيتش

يعرف معجم دليل أكسفورد للفلسفة، الأخلاق بقوله: "الأخلاقي، الحس "الحس الأخلاقي" اسم أطلقه فلاسفة من أمثال هتشسون وديفيد هيوم وهي القدرة على التمييز بين الفضيلة والرذيلة. يشار إلى مثل أولئك الفلاسفة بأنهم عاطفيون، لأنهم يفترضون أننا مشعر بأن الأشياء خيرة أو سيئة عوضا عن الاستدلال على أنها كذلك. غير أن مثل هذه المشاعر ليست منفصلة عند هيوم عن الحكم. الشعور بالإعجاب بسلوك فاضل لا يعتبر حسا أخلاقيا إلا إذا كان نشأ من تأمل نزيه في النزوعات الخيرة التي تتعلق بمثل هذه الأفعال بوجه عام. قد يكون الحس الأخلاقي، شأن الحس الجمالي، مؤسسا بطريقة سيئة. هذا أمر يسلم به جبين أوستن مثلا، الذي اعتبر عدم "شعور المرء كما يجب" خطأ. غير أنه منذ عهد كانت، ثمة رأي سائد يقر أن الأحكام الأخلاقية مسألة عقل أو تفضيل شخصي محض.

بعد أن أكد علي عزت بيجوفيتش على حرية الاختيار سمة إنسانية أساسية، ننتقل إلى قضية جوهرية في فكر المجاهد علي عزت وهي قضية الأخلاق، حيث يفرق بين الموقف المادي من الأخلاق والموقف الإنساني التراحمي بتعبير عبد الوهاب المسيري. فالأخلاق المادية "الداروينية النينشوية" تنطلق من التسوية والمزاوجة بين الإنسان والمادة، وبذلك يصبح الهدف الوحيد لكل منهما هو البقاء، وميكانيزماته الأساسية هو الذكاء والقوة. في هذا الإطار المادي لا يمكن أن نتكلم إلا عن الفعل ورد الفعل، فالمثير "المادي" تتبعه استجابة مادية بلا تردد أو ثنائيات أو ذكريات أو كوابح أو محرمات.

وفي هذا الصدد يقر علي عزت على: "أن الأخلاق، كظاهرة واقعية في الحياة الإنسانية، لا يمكن تفسيرها تفسيرًا عقليًا، ولعل في هذا الحجة الأولى والعملية للدين. فالسلوك الأخلاقي، إما أنه لا معنى له، وإما أن له معنى في وجود الله، وليس هناك اختيار ثالث. فإما أن نُسقط الأخلاق باعتبارها كومة من التعصُّبات، أو أن ندخل في المعادلة قيمةً يمكن أن نسميها الخلود، فإذا توافر شرط الحياة الخالدة، وأن هناك عالما آخر غير هذا العالم، وأن الله موجود بذلك يكون سلوك الإنسان الأخلاقي له معنىً وله مبرر".

الأخلاق المادية هي النفعية المادية، ومن ثم يكون الانغماس في كثير من النشاطات المادية للإنسان "التي تحقق الربح المادي له" هو قمة الالتزام الخلقي المادي

وأمام عمق هذا الكلام، يشير عبد الوهاب المسيري في مقدمة الكتاب على أن الصراع من أجل البقاء "المادي" لا يفوز الأفضل "بالمعنى الأخلاقي" وإنما الأقوى والأكثر تكيفا مع قوانين الطبيعة، أي الأفضل بالمعنى الطبيعي المادي. ولذا فإن صوت الطبيعة هو "تخلَّص من الضمير والشفقة والرحمة… اقهر الضعفاء واصعد فوق جثثهم"، على حد قول نيتشه، ابن داروين وبسمارك..! إن كل ما فعله "نيتشه" هو تطبيق قوانين البيولوجيا على الإنسان، فكانت النتيجة المنطقية هي نبذ الحب والرحمة وتبرير العنف والكراهية.

إن الأخلاق المادية هي النفعية المادية، ومن ثم يكون الانغماس في كثير من النشاطات المادية للإنسان "التي تحقق الربح المادي له" هو قمة الالتزام الخلقي المادي، خذ على سبيل المثال ما يسمى بالجرائم المقنَّنة "أي التي يسمح بها القانون" "كالفن الإباحي، والكتابات الداعرة، واستعراضات العرايا، وقصص الجرائم وما شابه ذلك…، أي فيلم داعر أرخص في إنتاجه عشرات المرات من إنتاج فيلم عادي وأرباحه تزيد عشرات المرات على أرباح الفيلم العادي".

 

إن إنتاج مثل هذا الفيلم من منظور المعايير المادية أفضل من إنتاج فيلم يلتزم بالمعايير الثقافية والإنسانية..، ومع غياب أي منظومات أخلاقية متجاوزة للنظام الطبيعي المادي تصبح اللذة هي الخير والألم هو الشر، ويصبح ما يحققه الإنسان نفسه من منفعة مادية "تزيد من إمكانيات بقائه المادي" هو الخير الأعظم. أو كما يقول "بنتام" صاحب مذهب المنفعة: "لقد أخضعت الطبيعة البشر لحكم سيدين، هما: اللذة والألم. فهما وحدهما اللذان يحكمان أفعالنا".

وهنا يطرح علي عزت بيجوڤيتش السؤال التالي: هل يمكن للعقل "الذي يدور في الإطار المادي" أن يولد منظومات أخلاقية..؟ ويجيب عنه بالنفي: "إن العقل يستطيع أن يختبر العلاقات بين الأشياء ويحددها، ولكنه لا يستطيع أن يصدر حكمًا قيميًا عندما تكون القضية قضية استحسان أو استهجان أخلاقي".. "الطبيعة والعقل على السواء لا يمكنهما التمييز بين الصحيح والخطأ، بين الخير والشر. فهذه الصفات ليست موجودة في الطبيعة".. "إن محاولة إقامة الأخلاق على أساس عقلي لا تستطيع أن تتحرك أبعد مما يسمى بالأخلاق الاجتماعية، أو قواعد السلوك اللازمة للمحافظة على جماعة معينة، وهي في واقع الأمر نوع من النظام الاجتماعي"، نوع من الإجراءات والقوانين الخارجية. كما أن التحليل العقلي للأخلاق يختزلها إلى أنانية وتضخيم للذات.

ثمة مفهوم يبينه علي عزت بيجوفيتش وهو الضامن إلى تحقيق التكافل بين الفقير والغني، وهو مفهوم المساواة، حيثما يرى أن هذا المفهوم لا يمكن أن يتحقق في الإطار المادي
ثمة مفهوم يبينه علي عزت بيجوفيتش وهو الضامن إلى تحقيق التكافل بين الفقير والغني، وهو مفهوم المساواة، حيثما يرى أن هذا المفهوم لا يمكن أن يتحقق في الإطار المادي
 

وتماشيا مع أبعاد الفعل الأخلاقي يشير بيجوفيتش على أنه: " من الممكن أن نتصور رجل دين لا أخلاق له، وبالعكس. فالدين نوع من المعرفة، والأخلاق هي الحياة التي يحياها الإنسان وفقًا لهذه المعرفة، وهنا يظهر الاختلاف بين المعرفة والممارسة. فالدين إجابة على سؤال: كيف تفكر وكيف تؤمن؟ بينما الأخلاق إجابة على سؤال: كيف تحكم الرغبة، كيف تهدف، أو كيف تحيا وكيف تتصرف؟ تنطوي الهامات عالم الغيب على مطلب أن نحيا وفقًا لهذه الرؤية الكونية الواسعة اللانهائية، ومع ذلك فهذا المطلب لا يتطابق مع هذه الرؤية.

 

لقد كانت أخلاقيات المسيح السامية نتيجة مباشرة لوعي ديني على الدرجة نفسها من القوة والوضوح. ومع ذلك، فإن مفتشي التحقيق الذين قاموا بعمليات الاضطهاد الديني كانوا أيضًا مخلصين لعقيدتهم الدينية، ونحن إذ نؤكد هذا لا نغفل عما في هذا المسلك من تناقض حاد. اقرأ هذه الآية: "… الذين آمنوا وعملوا الصالحات…". إنها تتكرر بصيغتها أو معناها في القرآن أكثر من خمسين مرة، كأنما تؤكد لنا ضرورة توحيد أمرين اعتاد الناس على الفصل بينهما. إن هذه الآية تعبّر عن الفرق بين الدين "الإيمان" وبين الأخلاق "عملُ الصالحات" كما تأمر في الوقت نفسه بضرورة أن يسير الاثنان معًا.

 

كذلك يكشف لنا القرآن عن علاقة أخرى عكسية بين الأخلاق والدين، فيوجه نظرنا إلى أن الممارسة الأخلاقية قد تكـون حافـزًا قويًا على التدين: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبّون"، فمعنى الآية هنا لا يقول: "آمن لتصبح خيِّرًا" وإنما على العكس يقول: "افعل الخير تصبح مؤمنًا". وفي هذه النقطة نرى إجابة على سؤال: كيف يمكن للإنسان أن يقوّي إيمانه؟ والإجابة هي: "افعل الخير تجد الله أمامك". وفي الأخير، يمكن أن نبرز أبعاد الفعل الأخلاقي لدى علي عزت بيجوفيتش في ثلاثة نقاط مهمة وهي كالآتي:

– لا يمكن أن نشيد الفعل الأخلاقي إلا على الدين، ومع ذلك فليس الدين والأخلاق شيئًا واحدًا. فالأخلاق كمبدأ، لا يمكن وجودها بغير دين، أما الأخلاق كممارسة أو حالة معينة من السلوك، فإنها لا تعتمد بطريقٍ مباشر على التديّن. والحُجّة التي تربط بينهما معًا هي العالم الآخر.. العالم الأسمى.

– يشير علي عزت إلى مفهوم محوري في الحضارة الغربية، وهو مفهوم التقدم "في الإطار المادي"، ويدرسه في إطار علاقته بالأخلاق. فيشير إلى ما يسمى "عقدة الإنسان البدائي" وهي قيام الإنسان البدائي بأفعال تتناقض وتطوره وتقدمه المادي مثل مفهوم المحرمات والعبادة والفن.

– وثمة مفهوم آخر، يبينه علي عزت بيجوفيتش وهو الضامن إلى تحقيق التكافل بين الفقير والغني، وهو مفهوم المساواة، حيثما يرى أن هذا المفهوم لا يمكن أن يتحقق في الإطار المادي. فلو نظرنا إلى البشر ورصدناهم بطريقة علمية مادية لوجدنا التفاوت بينهم في الصفات، فهذا بَدين وذاك نحيفٌ، وهذا ذكي وذاك غبي، وهذا جمجمته كبيرة وذاك جمجمته صغيرة، وهذا أبيض وذاك أسود، وهذا أصفر وذاك أحمر. وبناءً على هذا الاختلاف يمكن أن نختار فنقرر ألا يبقى إلا الأذكياء، أما الأغبياء فلنتخلص منهم، بمعنى أن عملية الرصد أو عملية الحكم العلمية المادية لا تنطوي على فكرة المساواة على الإطلاق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.