شعار قسم مدونات

اللغة وسيلة للتواصل!

BLOGS حوار هادئ

عندما يقرأُ باحثٌ في الفلسفة عنوان هذا المقال، سيتفاجئ لبلادته، عنوانٌ بديهي، أصبحَ متجاوزاً. عند القول بأن اللغة هي وسيلة أو أداة للتواصل فهذا خطأ جسيم لا يُغتفر من طرف فلاسفةِ اللُّغة. هايدغر ذاتَ مرةٍ عرَّفَ اللغة قائلاً: "اللغة هي ليست أداة يفصحُ بها الكائن الحي عن نفسهِ، بل هي مأوى الوجود". مارتن هايدغر قَلَبَ التصور القديم والخاطئ، لأن في فترة ما بعد الحداثة تمت صياغةُ اللغة صياغةً أنطولوجية، وتمَّ نحتها نحتاً فلسفياً، ولم تعد اللغة حِكراً على الأدب بتجلياته وتشعُّباته.

اللغةُ مرآةُ الوجود، وفي بعضِ الأحيان تتحوَّلُ اللُّغة إلى وسيلة سِحريّة للترويحِ عن النَّفس الكَسيرَة. فاللغةُ هي متعةٌ إنسانوية، يتميز بها الإنسان. لكن اللغات التي كانت متواجدة في القِدم، والمهيمنةِ على الشعوب، كانت لها رموزٌ خاصّة تتسمُ بها. وهي تختلفُ عن اللغات الحية المتداولة في العصر الرّاهن، فمثلاً اللغة التي تحدّث بها فلاسفة اليونان اندثرت حالياً، وتلاشت، بقيّت منها شظايا قليلة لا غير. نفسُ الشيء بالنسبة للغة المسمارية والهيروغليفية إلى غير ذلك. نستشفُّ من هنا أنَّ اللغة تتغير بتغيُّرِ الزمان والمكان، وتغيُّر الصنف البشري.

خلال القرن الماضي، برزت مدارس عديدة في أوروبا، هاجسها هو دراسة اللغة وتفكيكها وفهمها، كانت مهووسة باللغة إلى درجة الجنون، اللغةُ هي قدرهم الواحد والأوحد الذي لا مفرَّ منه. مدرسة أكسفورد مثلاً بأيقوناتها؛ على رأسهم جون أوستين الذي قام بمقارنةٍ بالِغة الأهمية بين العبارات الخبرية والعِبارات الإنشائية، مع العِلم أن هذه العبارات الإنشائية هي الّتي تنجزُ أفعال العِبارات الخبريّة، وبالتالي يمكنُ ردُّ جميع الجمل الخبرية إلى عباراتٍ إنشائيّة وأفعالٍ كلامية باعتبارها فِعْلُ إعلام وإخبار. ميّز أوستين بين ثلاثةِ أنواعٍ من الفعل الكلامي:

نجد رائداً من روّاد مدرسة أوكسفورد المتخصّصة في اللغة، هو "جون سورل" حيث قامَ بترسيخِ نظرية أفعال الكلام، وميّز بين خمسةِ أنواع من الأفعال الكلامية التي تُجسّد اللغة

– الفعل الكلامي: هو التلفُّظ بصوتٍ مُحدَّد ذات صيغةٍ ودلالةٍ معينة.
– الفعل التَكَلَّمي: هو الفعل التواصلي الّذي تؤديه هذه الصيغة التعبيريّة الكلامية في سيّاقٍ معيّن.
– الفعل التَكْليمي: هو أثرُ الفِعل التكلُّمي في المُجتمع.

إلى جانب جون أوستين، نجد رائداً من روّاد مدرسة أوكسفورد المتخصّصة في اللغة، هو "جون سورل" حيث قامَ بترسيخِ نظرية أفعال الكلام، وميّز بين خمسةِ أنواع من الأفعال الكلامية التي تُجسّد اللغة. نجد الأفعال التمثيلية، والتعبيرية، ثم التوجيهية، والإلزامية، وأخيراً الأفعال الإعلانيّة.

إنَّ من أبرز من نظّروا للغة، وتطرَّق لها بإسهابٍ كبير، واهتمَّ بها اهتماماً منقطع النظير هو "لودجفين فيتكنشتاين" هو فيسلوفٌ ألماني عاصر برتراند راسل وتأثر به كثيراً. فيتكنشتاين هذا انقلبَ على نفسه، فهو كان يُخاصم نفسه كثيرا، ويشمئزُّ مما يكتبه. كَتَبَ فيتكنشتاين كتاب مهم موسوم بعنوان "رسالة منطقية فلسفية"، ما يُميّز هذا الكتاب هو تصوُّرهُ الجميل لوظيفة اللغة، باعتبارها تعبيرٌ عن الواقع، هذا التصور اعتبرهُ صائبا، قبل أنْ يكتب كتابهُ الثاني "بحوث فلسفية" ليرتدَّ في هذا الكتاب على رأيهِ الأوّل، حيث أصبح يرى اللغة من منظورٍ آخر، لأنَّ وظائف اللغة تعدّدتْ، ومعانيها تكاثرت، وأصبحت لا تُعرفُ إلاَّ من خلالِ الاستعمال.

 

إذن فاللُّغةُ عند فيتكنشتاين هي طبيعية تنقسم إلى مرحلتين رئيسيّتين: اللغةُ هي تصويرٌ للعالم وللواقع (رسالة منطقية فلسفية)، ثم أصبحت وظائف اللغة لا تصحى ولا يمكنُ حصرُها بتاتاً (بحوثٌ فلسفية). يقولُ فيتكنشتاين: "لغتنا يجبُ أن تعكس بطريقةٍ ما تركيبةَ هذا العالم". أي أن تفهم اللغة عالَمنا وتستوعبهُ. وناقشَ أيضاً مسألة الكلمات كجزءٍ لا يتجزأ من اللغة، لأنَّ معاني الكلمات مرتبطة بطرق استخدامها في سيّاق اللغة، والكلمات في نظره هي مجرد أدواتٍ لتأديةِ الغرض المطلوب.

إنَّ اللغة عند فيتكنشتاين هي مثل ألعاب التسلية أو الألعاب الرياضية، فلكلِّ لعبة قواعدها، وللغةِ أيضاً قواعد وأصول لا تنفصلُ عليها البتة، بَيْدَ أن اللُّغة هي التي تُشكِّل المجتمع برمَّته، ومن المستحيل أن يبتكر الفردُ لغةً خاصّة به، فهي مشتركة ومتفقٌ عليها سلفاً. من خلال ما ذكرتهُ آنفاً يتضحُ لنا أن اللغة خرجت وانفصلت عن التصور القديم، باعتبارها وسيلةً للتواصل، لأنَّ فلاسفة اللغة غيّروا هذا المفهوم، وصححوه، فالبنيوية أيضاً لعبت دوراً محورياً في تغييرِ وظيفة اللغة، وفلاسفة ما بعد الحداثة كـ "بروست" الذي عبَّر عن رأيه قائلاً: الكتابةُ هي تأسيسٌ للويغة داخل اللُّغة. والسيميولوجي "رولان بارت" الذي شبَّهَ اللغة بالفاشية لأنَّها تمارس سلطةً قاهرة يندى لها الجبين. هنا تمَّ تغيير وظيفة اللغة، لتكتسي طابعاً جديداً، وتظهر في حلة جديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.