شعار قسم مدونات

تربيتك ميراثك.. عن الأسرة والوالدين

BLOGS الوالدين

أتكلّم عن كيانٍ واحد يتجسّد في عدّة أشخاص يتحرك كلُ منهم في اتجاه، تحرّكاً لا يلغي وحدتهم تحت مسمىً واحد، مسمى تتجاوز قيمته تجريد الحروف التي يُكتب بها، كيان الأسرة الذي ينظر إليه الكثير (إذا لم يكن الجميع) نظرة أهون مما يستحق، يتعاملون معه كشيء يتكون بشكل تلقائي بتزاوج فردين وبمولد آخرين ينتمون إلى كيان أسري هو بداية إرثهم من آبائهم. أتحدّث هنا عن إرث يبدأ مع أول نفس يملأ رئتي طفل رضيع لا يدرك من أين أتى وأي طريق سيسلك.

 

لتُنحّي قارئي العزيز مفهومك التقليدي عن الميراث جانباً، فمؤشر الراحة لم يرافق مؤشر المال مُذ خُلقت الأرض ومن عليها، حتى وإن خانتك الظنون والآمال، لا أتكلم عن إرث يُوهبُ لك بعد وفاة أحدهم، أتكلم عن إرث نحصده بلا وعي منذ ولادتنا إلى حينٍ تُعلن فيه مسؤوليتنا عن أفعالنا ومستقبلنا دون الالتفات إلى وليّ أمر يتحمل عواقب أفعالنا. أتحدث عن نفوسنا وشخصياتنا التي تولد كوعاء فارغ لا يشغله شيء، لا تشوبه تقلّبات أو ظنون. كُل ما سيملأ ذلك الوعاء هو إرثك الأهم في هذه الحياة، هو ما سيجلب لك الخير أو العناء، سيكون سر سعادتك أو شقاؤك.

نحن نولد بلا خيبات، بلا توقعات أو ألم، تخلو أرواحنا من أي رغبه سوى سكون ورضا بما يكفينا لالتقاط أنفاسنا والعيش بسلام. تلك الأنفس يُحكم عليها بالتقولب وفقا لما ترى وتألف، عذراً قارئي فلم أجد لفظاً يصف ما أقصد كلفظ (التقولب)، أعني أخد شكل ذلك القالب الذي توضع فيه الأشياء فتتأثر بحدوده وبصلابته أو لينه، تتأثر بكل ما يفرضه عليها ذلك القالب، حسُنت صفاته أم ساءت. أسرتك هي قالبك الذي ُيشكل جزءا كبيرا من مفهومك ونظرتك لتلك الحياة، فأنت ترى الحياة بمنظار والديك في طفولتك شئت أم أبيت، تتذمر مما لا يتوقف والدك عن التذمر منه، وتّحب ما يقصّه عليك من أخبارٍ يُحيك تفاصيلها وينسج ما تستخرجه أنت من دروس وقناعات سترافقك إلى مماتك أو إلى حينٍ تتدبر فيه ما يسكن عقلك من مفاهيم خضعت لقانون التَقولب الذي ذكرته آنفا.

أمك بكلمة منها ستجبر كسرا وقلقا أصابك وبكلمة منها تزرع فيك سخطاً وسترى العالم كُلّه ساخط عليك، أمهاتنا وحدهم يجعلونا أسوياء أو مضطربين، فكلمة دعم واحدةٍ منها كقصائد ينظمها الزمن

عندما تتعلم أحبالنا الصوتية النطق تسأل ألف سؤال عن ماهية كل شيء، ربما مئات الآلاف من الأسئلة على مدار سنوات عمرنا الأولى التي يتشكل بها عقل كائن يريد أن يُشبع وعيه بإجابات تريح تساؤلاته. لا تقلق طفلي العزيز فكل الإجابات جاهزة ومُعدة مُسبقا في بَوتقة مجتمعك الذي سيرشدك إلى سبيلك ويأخذ بيدك إلى طريق اتفقوا على أن يلزموك بالحرص على الالتزام بكل ما يملى عليك فيه. كثير ما تكون الأسئلة محلّ ضيق للآباء الذين يجدونها إلحاحا مبالغ فيه من طفلهم الثرثار فتكون إجابتهم مقتضبه ويمكن اختصارها بـ (لا تسأل فهكذا اعتدنا أن نفعل ونقول) أوفي قول آخر (وجدنا آبائنا كذلك يفعلون). هذا إن لم تكن من سيئي الحظ الذين يملأ جوف تساؤلاتهم تجاهل أو نَهر من ذويهم.

سيتشكل عدد خلاياك الدهنية وصحّتك وسلامة نموّك بجودة طعام والدتك كما ستتشكل صحتك النفسيّة بمعاملتها لك، أتحدث هنا عن الأم لأن لها النصيب الأكبر في تشكيل الصحّة النفسيّة لأبنائها في دراسات قتلت بحثاً لتثبت بأن الأم تقود نفوس أبنائها نحو السلام أو نحو العناء، فهي (وحدها) بوسعها إصلاح ما يتلفه الزمن وهي أيضاً (وحدها) بوسعها إتلاف ما لن تستطع الأزمان إصلاحه، أمك ستكفيك عن اللجوء إلى الغرباء لِبثّ شكواك والبحث عن أُذن تسمعك وقلب يكترث بك، أمك ستُلجؤك إلى حصى الطريق لتبُث شكواك إليه مما تلقى ولن تجد أذنا تكترث إذا لم تكترث هي.

أمك بكلمة منها ستجبر كسرا وقلقا أصابك وبكلمة منها تزرع فيك سخطاً وسترى العالم كُلّه ساخط عليك، أمهاتنا وحدهم يجعلونا أسوياء أو مضطربين، فكلمة دعم واحدةٍ منها كقصائد ينظمها الزمن في مدح ما نفعل، وكلمة توبيخ أو تجاهل تؤلم بشكل لا يسع الكلمات وصفه، دون أن تدري سترى قَدرك في عين أمك قبل أن تراه في أعين الخلق أجمعين، ستكفيك عنهم أو تفقرك إليهم. ستجعلك بتربيتها أكثر صلابة في مواجهة تقلبات الزمن ونواجزه أو تجعلك كالقشّة في بحر متلاطمة أمواجه.

الوالدان ينسجان روابط الصلة بين أبنائهم دون الحاجة إلى ذكر ذلك صراحة، فالمواقف وردود الفعل تُصدِق الادعاء أو تُكذبه. فما فائدة أن أقسم بأن هناك مكيالين متساويان بينما يُكذب الميزان ادعائي. الأسرة هي من تُخرج إلى المجتمع بشراً مستقلين دوي فكر وقدرة وهي أيضا من تخرج مشوهي الأنفس. تلك المسؤولية حريٌّ بها أن تجعلنا جميعا نعيد التفكير في رغبتنا أن نصير آباء، أو بالأحرى أن نختبر ثقتنا الزائدة بأننا قادرون على إحضار كائن ذا وعي وذا قلب مُدرك. ذلك الإرث هو تربيتنا نفسيا وأخلاقيا وعملياً، أغنى الناس هو من ملأ والديه كيانه بنفسية مستقرة وتقبُّل واحترام، ذلك الإرث هو ما يملأ الوعاء الفارغ الذي نولد به ونحمله على أكتافنا حتى يدركنا الموت. ذلك هو الإرث وكل ما دون ذلك رفات يتكالب عليه من فقدوا إرثهم الحقيقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.