شعار قسم مدونات

ما المطلوب لنحقق المصالحة الوطنية في العراق؟

blogs التحالف الوطني العراقي

شهدت الساحة العراقية أزمات سياسية واجتماعية وقيمية واقتصادية نتج عنها فرز طائفي وعرقي وسياسي بين مكونات الشعب العراقي وصلت ذروتها في مرحلة ما بعد عام 2003، فأخذت شكل أزمة متعددة الأبعاد سياسياً واجتماعياً وأمنياً يغذيها إرث الماضي المستغل حاضراً، ولهذهِ الأزمة تداعيات كبيرة على مكون من الشعب العراقي وتشكل عقبة أساسية أمام مسعى بناء دولة المؤسسات والمواطنة في العراق، فتأتي الحاجة للمصالحة الوطنية كأحد أهم السياسات المناسبة لمعالجة الصراعات السياسية والعنف الذي تعانيه الحياة السياسية في العراق. وتبرز أهمية الارتكاز على المشتركات التي تجمع بين الشعب العراقي وعدم الارتكان إلى مشاكل الماضي، وهذا الارتكاز يتطلب تحقيق السلام والتعايش عبر المصالحة السياسية والمجتمعية الشاملة.

وتُعد "المصالحة" مصطلحاً واسعاً فضفاضاً، يأتي بأكثر من معنى وله العديد من المرادفات كالتوفيق بين الأطراف وإعادة العلاقات، مثلما له صلة بعدد من المفاهيم مثل "الاعتذار" و "التسامح" و "العفو" و "بناء السلام" و "التعايش السلمي" و "العدالة التصالحية"، والمصالحة التي يمكن أن تطبق في دولةٍ ما قد يصعب تطبيقها بنفس الشكل في دولة أخرى نتيجة لاختلاف الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين المجتمعات والدول. وتُعرف المصالحة الوطنية بشكل مبسط على أنها: "عملية للتوافق الوطني تنشأ على أساسها علاقة بين الأطراف السياسية والمجتمعية قائمة على التسامح والعدل وإزالة آثار صراعات الماضي لتحقيق التعايش السلمي بين أطياف المجتمع كافة، بما يضمن الانتقال الصحيح للديمقراطية، من خلال آليات محددة ووفق مجموعة من الإجراءات". 

وتضمن مسار المصالحة الوطنية في العراق الكثير من مبادرات المصالحة قد أطلقت عبر مراحل تطور عملية المصالحة الوطنية المختلفة منذ عام 2005 والأعوام اللاحقة إذا طرحت العديد من المبادرات من قبل العديد من الشخصيات السياسية والدينية وكذلك الأحزاب والحركات السياسية، بيد أن هذهِ المبادرات غالباً ما تلقى تفاوت في مواقف القوى السياسية منها بين الرفض والقبول، الأمر الذي يعيق من تطبيقها بشكل مناسب ومن ثم يتم طرح مبادرات أخرى من أطراف ثانية لتبقى هذهِ المبادرات دون تجسيد على أرض الواقع.

متطلبات تحقيق المصالحة الوطنية
المصالحة الوطنية تحمل من الأهمية الكثير للمجتمعات والدول التي تمر بمرحلة من الصراعات والأزمات الاجتماعية والسياسية، والحال الذي ينطبق على العراق مجتمعاً ودولةً

يحتاج تحقيق عملية المصالحة الوطنية في العراق إلى تطبيق عدد من المتطلبات والضمانات والسبل التي تتناسب مع معطيات الواقع العراقي وهو موضوع ليس بالسهل تحقيقه من دون أن يكون لدى القائمين على الامر إلماماً كبيراً بالواقع السياسي والاجتماعي والقانوني والثقافي في المجتمع والدولة والمعنيين، ولعل أهم هذه المتطلبات:

1- تطبيق العدالة الانتقالية، يتطلب تحقيق المصالحة الوطنية في العراق أن تتحقق العدالة الانتقالية وتطبيقاتها بالصيغة الديمقراطية التصالحية وليس بالصيغة الجزائية العقابية ولا الثأرية الانتقامية، لأن الأولى هي الصيغة الأكثر ملائمة لضمان المصالحة الوطنية الحقيقية، وعند تحقق العدالة التصالحية ستكون دعماً للعدالة الانتقالية التي تمثل الركن الأول من بين أركان المصالحة الوطنية الثلاث المتمثلة بـــ "العدالة والحقيقة والتعويض".

2- الاعتراف بالخطأ والاعتذار، لابد من أن يعترف الذين ارتكبوا الانتهاكات بحق الشعب بالأخطاء والمظالم المرتكبة في العراق وبشكل علني وأمام الشعب ويقدمون الاعتذار له.

3- معالجة ترسبات الماضي، يجب التأسيس لمستقبل يتجاوز مظالم الماضي وعدم العودة إليها وعدم إساءة استخدام السلطة والثروة، ويحقق الأمن والتنمية والمصالحة الوطنية.

4- بناء الثقة بين كل الأطراف، كون المصالحة في حدها الأدنى حالة تستطيع فيها الأطراف المختلفة والمتصارعة أن تثق ببعضها البعض وكذلك المواطنون، الأمر الذي يعني ضرورة توفر الالتزام الكافي بالمعايير والقيم التي تتطلبها المصالحة الوطنية، وكذلك توفر الثقة الكافية في من يديرون المؤسسات الحاكمة بأنهم ملتزمون بتلك المعايير والقيم، فضلاً عن الثقة بالتزام أبناء الوطن بها.

5- الاعتراف بالآخر، إن يشكل الاعتراف بالآخر ركيزة أساسية للمصالحة والحوار الوطنيين وأن يكون على الصعد كافة، سواء على صعيد الأفراد والجماعات أو على صعيد القوى السياسية المختلفة.

6- اشتراك جميع القوى الفاعلة في المصالحة، يجب أن تكون المصالحة الوطنية بين القوى الفاعلة في المجتمع العراقي على تنوعه سواء كانوا داخل العملية السياسية أو خارجها، كون المصالحة هي تسوية تاريخية تنهي الخلاف العراقي – العراقي، الحال الذي يتطلب أن تكون صيغة الحل شاملة وتدخل فيها جميع أطراف الأزمة.

7- الاتفاق على الثوابت الوطنية، ضرورة اتفاق مختلف الأطراف السياسية والمكونات المجتمعية العراقية على الثوابت الوطنية والتوافق على الأمور السياسية التي تمهد لتحقيق المصالحة الوطنية.

8- تغليب المصلحة الوطنية، يجب تمسك جميع الأطراف والجهات المعنية بتغليب المصلحة الوطنية والنأي عن المصالح والأهواء الشخصية والتخلص من المكابرة والمغالبة التي تؤجج الثأر والانتقام، واستحضار النية الصادقة من أجل إصلاح ذات البين وترسيخ التسامح والعفو وبلوغ المسار الصحيح للديمقراطية.

9- الانطلاق بعملية جديّة لتقييم العمل السياسي للمرحلة السابقة وضرورة التأكيد على نبذ خلافات الماضي وطي صفحة التنابذ، والدعوة إلى العفو والصفحة والتسامح.

10- أن يتم الاستفادة من الروابط والقيم الاجتماعية والثقافية والدينية التي تربط أبناء المجتمع العراقي لدعم عملية المصالحة الوطنية، وبخاصة في ظل وجود نسيج اجتماعي متماسك يساهم في دعم الحملة لمواجهة التطرف والإرهاب.

11- أن يتم تبني سياسات وإجراءات تمنع أو تجرم الأعمال الطائفية والتعصبية والتمييز على عرقية أو دينية.

واعتقد أن هذه المتطلبات ستحقق المصالحة الوطنية في العراق فيما لو وجدت الجهات المناسبة التي تتبنى تطبيقها بشكل صحيح ونوايا صادق لانتشال البلاد من الأزمات الطائفية والمذهبية والعرقية التي تشكل أحد الأسباب الرئيسية لباقي المشكلات السياسية والاجتماعية والأمنية الأخرى.

الوضع في العراق يقتضي تطبيق تجربة المصالحة الوطنية وطرح إمكانية الاستفادة من تجارب المصالحة الوطنية المطبقة في العديد من الدول ومنها بشكل خاص دولة جنوب إفريقيا
الوضع في العراق يقتضي تطبيق تجربة المصالحة الوطنية وطرح إمكانية الاستفادة من تجارب المصالحة الوطنية المطبقة في العديد من الدول ومنها بشكل خاص دولة جنوب إفريقيا
 

ختاماً يمكن القول أن المصالحة الوطنية تحمل من الأهمية الكثير للمجتمعات والدول التي تمر بمرحلة من الصراعات والأزمات الاجتماعية والسياسية، والحال الذي ينطبق على العراق مجتمعاً ودولةً، ويجب أن تحظى المصالحة الوطنية باهتمام كبير يتجسد بتحقيق وتطبيق متطلباتها وآلياتها، لا سيما أن المجتمع العراقي بكل أطيافه وتنوعاته له القابلية على العفو والتصالح والصفح بين أفراده الذين يرتبطون بمشتركات كثيرة تتراوح بين العرق والدين والثقافة والتاريخ والهوية الوطنية المشتركة هذا قدر تعلق الأمر بالمجتمع.

 

أما فيما يخص القوى والتيارات السياسية فمن الأجدر بها أن تغلب المصلحة العامة على مصالحها الخاصة والانخراط في عملية المصالحة التي تساهم بإرساء الأمن والاستقرار للبلاد من دون أن تكون عامل مساهم في ضياع حقوق الذين تضرروا من الحقب السابقة، أو تكون فرصة لإفلات المجرمين من العقاب دون اعترافهم بالخطأ والاعتذار للشعب العراقي، وألا تضع العقبات أمام تفعيل المصالحة الوطنية من خلال عدم الاعتراف بالآخر ووضع الاستثناءات واللاءات أمام هذه الجهة أو تلك.

وبقدر إدراك صانع القرار العراقي والأطراف الأخرى لأهمية المصالحة الوطنية وما يمكن أن تعود به للمجتمع والدولة من فوائد سيكون الاتجاه للعمل من أجل تحقيق متطلباتها، وتذليل أو معالجة العقبات التي تعترض طريق تطبيقها، والتوصل إلى عملية مصالحة شاملة لا تقتصر على أطراف العملية السياسية فحسب، وإنما حتى الأطراف خارجها ما دامت على هذه الأطراف ترغب في الانخراط بالعملية السياسية وتؤمن بما يمكن أن تنتجه من مخرجات، وعدم وضع الخطوط الحمر التي تتنافى ومبادئ التصالح.

إن الوضع في العراق يقتضي تطبيق تجربة المصالحة الوطنية وطرح إمكانية الاستفادة من تجارب المصالحة الوطنية المطبقة في العديد من الدول ومنها بشكل خاص دولة جنوب إفريقيا، ولكن على الرغم من إمكانية الاستفادة من هذه التجارب في بعض جوانبها إلا أن التجربة العراقية لها خصوصية نابعة من الواقع الاجتماعي والقيمي والثقافي والسياسي يقتضي الأمر أخذها بنظر الاعتبار وليس الأخذ بكل مضامين تجارب الدول ومحاولة تطبيها على تجربة العراق في هذا المجال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.