شعار قسم مدونات

وداع المدينة المؤلم.. قصة قصيرة من وحي التاريخ

blogs قصة من وحي التاريخ

لطالما أحدثت جحافل الحُجاج وعلى رأسهم أمير المؤمنين ضجة بالمدينة، لا حديث الآن إلا عن موكب سليمان بن عبدالملك؛ حيث يجوب الصحراء قادماً من دمشق ليؤدي فرض الله، العلماء يحيطون به من كل جانب، جنوده ليس معهم إلا سيوفهم، امرأة طاعنة في السن تنتظر مرور هذا الموكب تغني: يا سليمان يا ذا المن والإكرام، قلوب الناس تكاد تنخلع من هول المشهد، قادمون من كل صوب، الآن هم يلتفون حول سليمان في مشهدٍ مهيبٍ، كلٌّ يريد أن يلقى عليه نظرة من قريب، سيتسامرون في يوم يحكى كل واحد منهم عن أنه رأى خاتمه الذى بيده وتلمس أطراف ثوبه، انتظر الجميع حتى يفرغ سليمان من الصلاة أمام قبر محمد، الجميع يدرك أن سليمان لا يعبأ بهم، وأن مصير انتظارهم سوف يكون بعد لحظات في مهبّ الغياب.

لقد سمعنا أنهم أعدوا له مائدة طعام عليها من الخراف خمسون، ومن لحوم الدجاج والزبيب والرمان ما شاء، قال ذلك رجل في الخمسين من عمره دائماً ما يثرثر بالكلام وفي جسده بعض الانحناء، لكن رفيقه عمار قطع حديثه قائلاً: لقد مرّ سليمان على ابن أبى زهير الثقفي بالطائف وأقام عنده ليلة واحدة أطعمه فيها ابن أبى زهير من كل صنوف الطعام حتى كاد ابن أبى زهير يعلن إفلاسه، في أثناء هذا الحديث خرج سليمان من المسجد راكباً فرسه مشيراً إلى الناس بأن بارك الله لكم في مدينتكم، وما كاد يحدب بعينه إلى مسجد محمد مودعاً إياه حتى وجد حلقة من الناس تلتف حول رجل شاحب وجه ومضيئة وجنتاه عليه عباءة من الصوف يبدو أنها أقدم عمراً من المسجد الذى يقبع فيه، فخفق قلبه وتصاعدت أنفاسه لهول الرجل وشدة سكون الناس حوله، أخذته فكرة أنه كيف كان يصلى ولم يلتفت إلى هذا الجمع البسيط من الناس، أنّ أشياء تحدث من حولك داخل إطار الزمان والمكان ولا تراها إلا عن طريق الصدفة، لكنه رمق بعينه ناحية ابن شهاب الزهري أحد كبار رجالات الدولة والعالم بشؤون الدين والجليس الدائم لسليمان وسأله عن اسم هذا الرجل إن كان يعرفه فلقد عاش ابن شهاب في المدينة لأكثر من ثلاثين سنة.

سأل سليمان: كيف تجدني عند الله يا سلمة؟ ولم تكن هناك إلا بضع ثوان بين سؤال سليمان وإجابة سلمة انهمرت إثر هذه الإجابة دموع سليمان وخنقته العبرات

إنه سلمة بن دينار أكبر الناس عُمراً بالمدينة؛ لقد رأى جمعاً كبيراً من أصحاب محمد، ونقل عنهم فتاواهم، هكذا رد عليه ابن شهاب الزهري، إثر ابتسامة بسيطة تحرك سليمان ناحية الرجل ومجلسه والناس تمشى على إثر سليمان، وما أن أصبح بمحاذاة الرجل وتفصله عنه بضع خطوات ألقى سليمان التحية على الرجل. بدون أن تهتز أجفان الرجل وبدون أن يتحرك من موضعه وبعد أن رد عليه تحيته تكلم فقال لسليمان: مثل ما وصفك الناس يا أمير المؤمنين، جميل الوجه ضخم الجسد دائماً ما تفوح منك رائحة العطر، أمير من نسل الأمراء.

لا صوت يعلو الآن فوق صوت سلمة وسليمان، الكل يكتم أنفاسه منتظرين عن ماذا سيسفر اللقاء بينهما، كلٌّ يريده على حسب ما يهواه، فيضيق بعضهم ذرعاً بكلمات سلمة ومنظره المشمئز، من هذا الذي لم يقف على الأقل احتراماً لأميره ولم يعبأ حتى بقدومه عليه. وينظر بعضهم إلى سليمان نظرة لأمير يريد أن يتملق قلب هذا الرجل المسكين وقلوب من حوله. لم يدرِ سليمان كيف يبدأ حديثه مع الرجل، ماذا وراء هذه العباءة التي تفوح منها رائحة العطن من كلمات؟ فكر سليمان قليلاً ثم قال وهو يريد أن يختصر حديثه: كيف تجدني عند الله يا سلمة؟ إن كلمات الله نافذة فمَن أبَرَّ فالنعيم مثواه، ومن أساء فالجحيم عقباه.

لم تكن هناك إلا بضع ثوان بين سؤال سليمان وإجابة سلمة انهمرت إثر هذه الإجابة دموع سليمان وخنقته العبرات، وفي خِضَمّ هذا السكون من الجميع شاب يتمتم مع قرينه: إنها دموع التماسيح يزرفونها أثناء أكل فريستها، لا تنزعج لهذه الدموع، إن عامله على العراق يزيد بن المهلب يعيث في الأرض فساداً، ماذا اختلفت أيامه عن أيام الحجاج بن يوسف، إنهم أمراء ملاعين يقتلوننا ثم يبكون علينا بهذه الدموع الزائفة.

يتبع…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.