شعار قسم مدونات

من فرنسا إلى إيران.. لماذا تؤدي الثورات لإشعال الحروب؟

blogs مظاهرة ثورة

في جميع الحالات الثورية على مر التاريخ – بحسب ستيفن والت وباتريك كونغ – نتجت حالة من التنافس الأمني الغير معتاد. هذا التنافس هو ما جعل من وقوع الحرب أمراً ممكناً، وهذا ما شرحت أهم أسبابه في تدوينتين سابقتين. إلا أنه ليس في كل الحالات قد وقعت الحرب بشكلها التقليدي، لكن الجميع اقترب منها بنسب متفاوتة.

الحقيقة الأخرى هي أن الثورة ليست السبب الوحيد للحروب والنزاعات بين الدول، لكن الثورات دائماً ما زادت مستوى الصراع والتنافس الذي قارب وقوع الحرب، لما تسببه الثورة من عداوات جديدة مع حلفاء النظام القديم، وإحساس عدم الأمان للدول المجاورة وأنظمتها. في حالة الثورات لا تكفي نظرية توازن القوى في قياس ردود الفعل وفهم الدوافع، لذلك جاء استيفن والت بنظريته الجديدة وأسماها "توازن التهديد" حيث يمكن من خلالها تصور كيف يبني كل طرف سياساته وتحركاته على ما يتوقعه من تهديدات قادمة على يد الطرف الاخر نتيجة ما حدث من تغير في النظام.

لكن ماذا تعني نظرية "توازن التهديد"؟
هذه النظرية تحاول الإجابة على سؤال: لماذا تجعل الثورة من الحرب أمراً ممكنا؟ أو لماذا تتسبب الثورة على الأقل في تصاعد حدة الصراع والمنافسة؟ حيث تقول النظرية أن الثورات تسبب حالة من "التنافس الأمني" أو "صراع التسلح" نتيجة سببين أولهما زيادة مستوى التهديد بين الدولة الثورية وأعدائها، والثاني عن طريق تشجيع كلا الطرفين على الإيمان بأن استخدام القوة هو الحل الأمثل والطريق الأسرع للقضاء على التهديد وبكلفة أقل.

نظرية توازن التهديد قالت أن الثورة لا تكتفي بإحداث خلل في ميزان العلاقات الدولية فحسب، بل تقود للحرب بين الدول أو على الأقل صراع دولي حاد

هنا يتضح ما أردت إيصاله وهو كيف أن الثورة تهدد وتؤثر بشكل مباشر على العلاقات الدولية، من خلال تصاعد حدة التنافس الأمني بين الدولة الثورية الجديدة والقوى الأخرى سواء دول الجوار أو دول ذات نفوذ في المنطقة. ومن هنا تأتي احتمالية وقوع الحرب في ظل حالة من اللاوضوح لدى الطرفين عن نوايا الطرف الأخر ودوافعه لرفع حالة التسلح. الأمر الخطير في تلك المعادلة أن الحسابات في معظم الأحيان تكون خاطئة وقائمة على معلومات مزيفة.

فمثلا في حالة الثورة الإيرانية إذاً استخدمنا نظرية توازن القوى التقليدية في تفسير لماذا اندلعت الحرب بين إيران والعراق؟ نجد أنها ليست كافية لتفسير ما حدث لأن حالة ضعف النظام الإيراني بعد الثورة ليست هي السبب الوحيد الذي شجع النظام العراقي على الهجوم. فمن بين الأسباب الأخرى وأبرزها كان الخوف من انتشار الفكر الثوري سواء في العراق أو في الدول العربية المجاورة التي دعمت العراق في مهمته ضد إيران، خوفاً من تهديد قد تواجهه الأنظمة الديكتاتورية والملكية في المنطقة. إضافةً إلى الإيمان العميق بأن قيادة الثورة الإيرانية كانت تحاول جاهدة نشر الفكر الثوري في دول الجوار.

متى قادت الثورة إلى الحرب؟
نظرية توازن التهديد قالت أن الثورة لا تكتفي بإحداث خلل في ميزان العلاقات الدولية فحسب، بل تقود للحرب بين الدول أو على الأقل صراع دولي حاد، وهنا تعريف محدد للحرب فيما يتعلق بهذه النظرية، فلم يشمل التعريف الحروب الأهلية أو الداخلية وإنما الحرب بشكلها الدولي بين بلدين أو أكثر. وهنا أعرض لك عدداً من الثورات التي قادت للحرب بالشكل الذي تعنيه النظرية.

1- الثورة الفرنسية ١٧٨٩، انهيار نظام لويس السادس عشر الملكي أدى إلى تنافس بين دولة فرنسا الجديدة والنمسا وروسيا، وأدخلت فرنسا والنمسا في صراع واسع، وجلبت العداوة مع انجلترا حتى أدت إلى الحرب عام ١٧٩٣.

2- الثورة الروسية (البلشفية) عام ١٩١٧ تبعها تدخل عسكري خارجي من عدة دول على إثر الحرب الأهلية وكذلك حرب مع بولندا عام ١٩٢٠.

3- الثورة الصينية عام ١٩٤٩ أعقبها الحرب الكورية عام ١٩٥٠ أي بعد الثورة بعام واحد.

4- الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ تبعتها حرب دموية امتدت لأكثر من ثمانية أعوام مع العراق بين ١٩٨٠ وحتى عام ١٩٨٨.

معضلة تساقط قطع الدومينو
عام ١٩٩٧ كتب مارك كاتز كتابه عن الثورات والموجات الثورية، وذكر أن خطورة الثورة تكمن في توسع موجاتها، تلك الموجات التي تهدد القوى الرئيسية أو الإقليمية في وضعها الراهن. حيث تفقد تلك القوى حليفها الذي سقط لتوه نتاج ثورة شعبية، ويظهر نظام جديد عدو لها ذو طبيعة ثورية. هذا النظام الجديد من المتوقع أن يتحالف مع معسكر آخر قد يكون مواجهاً أو عدواً لتلك القوى.

هنا تظهر معضلة جديدة تسمى "تساقط قطع الدومينو"، حيث من الممكن – بل ما يحدث – هو أن تتحالف الدولة الثورية مع بعض الدول الصغيرة التي لا تمثل أهمية أو ثقل في الوضع الطبيعي، فتحاط الدول الأكبر أو القوى الإقليمية بأكثر من مصدر للتهديد الثوري، ويقترب خطر الثورة أكثر من حدودها وهذا ما تخشاه الدول الأخرى من نتائج الثورة. فالخطورة في بداية الأمر هي انتشار قناعة حول عدائية الثورة وتصورات عن رغبتها في الهيمنة، وهنا يكمن فتيل الأزمة المؤدية للمواجهة. إلا أن غياب تلك النظرة – التي صحبت معظم الثورات – كان كافياً لتجنب الحرب في حالات ثورية أخرى مثل الثورة التركية والمكسيكية والأمريكية، إلا أنها بطبيعة الحال أدت لتهديد حقيقي في ميزان القوى وصراع على المصالح بالإضافة إلى حالة عميقة من الشك في نوايا الطرف الآخر.

وعند رصد تلك التخوفات وتحديداً "انتشار الثورة" و"عدائية النظام الجديد"، نجد أنه في الغالب تكون تقديرات كلا الطرفين مبالغاً فيها نتيجة عدم وضوح النوايا، الأمر الذي كان من الممكن تفاديه بانفتاح "دبلوماسي". فمن التاريخ يتضح أن فكرة تصدير الثورة هي أمر صعب الحدوث، نظراً لعوامل عدة أهمها: محاولة النظام الثوري رأب الصدع داخل دولته الحديثة وانشغاله بتلبية مطالب الناس وتأمين البقاء في السلطة. على كلٍ فإن وقوع الحرب نتيجة الثورة لا يعني فشل الثورة، وهذا ما سوف أذكره في التدوينة القادمة بإذن الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.