شعار قسم مدونات

لغة الضاد.. البحر الذي لا تنفد كنوزه

blogs - اللغة العربية

أذكر أنه مر علي طالبان وأنا في الجامعة سمعاني أتحدث مع أستاذي باللغة العربية الفصحى، نظر أحدهما إلى زميله وأطلق موجات من الضحك ارتفعت في المكان.. سنعود بالمشهد للوراء، لو كنت أتحدث بلغة غير العربية الفرنسية مثلاً أو الإنجليزية هل يا ترى ستكون ردة الفعل نفسها؟ طبعاً لا فهي لغات جًرت على لساننا وتعودنا عليها بالرغم من أنها دخيلة. أما لغتنا الأم التي أنجبت حضارتنا وثقافتنا فقد استغنينا عنها منذ عقود، وباتت بالنسبة لنا لغة أبي جهل وأبي لهب لغة عتيقة أتت من العصور القديمة، وليست لغة الحاضر والمستقبل. 

أنا معك أن الاحتلال غرز خنجره في لغتنا ليترك فيها ندوباً كثيرة فأصبحت بعض الكلمات عرجاء لا قوام لها.. أنا معك أنها ليست لغة التكنولوجيا والأبحاث اليوم، لكن هذا ليس بالسبب الذي يجعلنا نتنصل منها ونتباهى بالتحدث بلغات أخرى ليست لنا، والطامة الكبرى أن تغيب هذه اللغة في المدارس لتُستبدل باللهجات الدارجة. أنا لست ضد تعلم لغات العالم والانفتاح عليها، بل هي ضرورة في عصرنا.

نجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود لأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمنهم وقال: (من تعلم لغة قوم أمن شرهم) لكن اجعل جذورك تمتد في لغتك عميقاً واسقها جيداً ببحور الشعر وترانيم الأدب وموسوعات الكتب، حينها سيرتفع جذعك عالياً لتبصر حضارات العالم وتنهل منهم. لكل لغة سحر وفي كل شبر من الأرض آية وسحر العربية في حروفها التي اصطُفيت أن تكون في خاتم الكتب المقدسة وأعظمها القرآن الكريم "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ"، "قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ".. فما أجل حروفه وما أعظمها ولو نزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعاً.

أشعر بالخجل وأنا لا أحفظ من الشعر إلا بيتين أحدهما عن المجد الذي ضيعناه والثاني عن الحرية التي سُلبت منا.. أشعر بالخجل أني لم أقرأ ولو سطرين من الآجرومية أو ألفية ابن مالك..

ترى أخاك المسلم في الهند أو في الصين في أوروبا وأمريكا يلف المدينة بطولها يبحث عن مَدرسة تُعلمه اللغة العربية ليقرأ بها القرآن. بحروف متلعثمة ونطق عسير يتلون الآيات، فلنتأمل أي نعمة نحن فيها إذن وقد نزل القرآن بلغتنا؟! لنعد مئات السنين إلى الوراء، بالضبط إلى أيام الأندلس يوم كان العرب في ركب مجدهم ففتحت على أيديهم المماليك وانتصروا لدينهم ولغتهم، فبات الغرباء يقلدونهم والسيد فيهم من يستطيع تحدث اللغة العربية. حيث جاء في التاريخ أن الأمة المغلوبة تتبع الأمة الغالبة، فيوم كانت الغلبة لنا انتصرت لغتنا وكانت تُكتب بها الرسائل إلى ملوك كِسرى والروم، ودُونت بها الموسوعات والكتب في الطب والهندسة والفلك والأدب وغيرها.

تقول المستشرقة الألمانية زيفر هونكه: (كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم، وسحرها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صَرْعَى سحر تلك اللغة)، كتاب القانون في الطب لابن سينا ظل يُدرس في الجامعات الأوروبية لمدة ستة قرون كاملة، ومكتبة قرطبة آنذاك كانت من أكبر المكتبات في أوروبا. أشعر بالخجل عندما أقرأ عن سلمان الفارسي كيف عبر الأرض بحثاً عن دين سمع به ينتشر فجائه واعتنقه وعاش له وبه ونقل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال عنه علي بن أبي طالب لما سُئل عنه (أدرك العلم الأول، والعلم الآخر، بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت)، فهل كان سلمان عربيا؟

أشعر بالخجل وأنا لا أحفظ من الشعر إلا بيتين أحدهما عن المجد الذي ضيعناه والثاني عن الحرية التي سُلبت منا.. أشعر بالخجل أني لم أقرأ ولو سطرين من الآجرومية أو ألفية ابن مالك.. أشعر بالخجل لأنني أكتب بحروف مبتورة لا أعرف فيها متى تكون الألف فوق السطر أو تحته ومتى تُكتب الضاد أو الظاء، وفي هذا يقول الحريري:

أيها السائل عن الظاء والضاد.. لكيلا تُضلّه الألفـاظ

إن حفظت الظاءات يغنيك فاسمعها.. استمـاع امرئ له استيقاظ

هي ظمياء والمظالم والإظلام.. والظلم واللحاظ

أشعر بالخجل وأنا عاجزة عن تنظيم نص تحلق فيه البلاغة وتحيي فيه الكلمات فكأنما هو انسان يحدثك! لا نحتاج يوماً عالمياً للغة العربية، بل نحتاج أن تكون لُغتنا في عالمنا الذي نعيشه وفي عالم أبنائنا من بعدنا، نحتاج أن نُحبها ونُعلمهم حُبَها. يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي: (وكما أن الذي أنزل عليه القرآن نبي العرب، فالقرآن نبي العربية، بحيث لا تجد من فضل لرسول الله على الأنام، ألا وجدت فضلا في معناه لكلام الله على الكلام).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.