شعار قسم مدونات

مدونة التغيير.. للثورة عناوين أخرى

blogs ثورة يناير

حسب معجم أوكسفورد ستجد تعريفات عدة للثورة لعل أشهرها "الإطاحة بنظام سياسي أو اجتماعي قائم لصالح نظام جديد" وهذا هو التعريف الأكثر شيوعا في عالمنا العربي المعاصر، إذ ارتبطت الثورة بالتغييرالسياسي نظرا لحالة الاستبداد والانسداد السياسي الذي جعل من الثورة من أجل تحسين ظروف المعيشة أمرا هامشيا إذا ما قورن بالثورة من أجل حرية الإنسان وحفظ كرامته. ربما يعتقد البعض أنني أحقر من شأن ثورة الجياع، أو أنني لا أحض على الثورة من أجل رغيف العيش، والحقيقة أنني أعتقد اعتقادا جازما أن رغيف العيش الملقى إليك على رصيف الحياة في مقابل الصمت الأبدي تجاه انتهاك آدميتك هو والعدم سواء، بل إن الموت قبل أن يلقى إليك طعامك كما يلقى للحيوانات على قارعة الطريق أفضل ألف مرة.

 

ثمة تعريف آخر في نفس المعجم يتحدث عن الثورة في المطلق ويعرفها بأنها "حالة من الدوران" an instance of revolve  بمعنى أنها حالة تحول من اتجاه ما إلى آخر في الجهة المقابلة، ولكنها وكما في تعريف آخر مشابه تظل في نفس محور الدوران، أي أنها لا تنتقل إلى محور آخر للدوران. هذا التعريف في رأيي لا يرقى لحالة الثورة بل إنه حالة من التغيير الهائل في ذات نفس المسار، أي أن التغيير على سبيل المثال يتم داخل الفكرة الرأسمالية وليس التحول عنها، وهذا ما يمكن تعريفه بالتغيير الدراماتيكي أكثر من كونه ثورة بمفهومها الشامل.

 

ثورات وليست ثورة

قد يثور الناس على النظام السياسي برمته، أو يثورون على النظام الإجتماعي بكليته، لكن هذه الثورة على السياسي والاجتماعي قد يسبقها أو يواكبها ثورات أخرى لا يشعر بها من يعيشون لحظة ولادة هذا النوع من الثورات. خذ على سبيل المثال الثورة الصناعية الأولى والثانية وقد امتدت كلتاهما لقرابة ثمانية عقود من الزمان. في الثورة الأولى والتي ظهرت في مدينة مانشستر ببريطانيا 1760 واستمرت حتى 1840 م أحدث اكتشاف البخار والحديد طفرة هائلة في عالم التصنيع خصوصا صناعة المنسوجات، وهي الثورة التي استبدلت الآلات بالقوى العضلية للعمال.

 

الثورة الفرنسية ومعظم الثورات لم تقم على أساس أنها ثورة جياع وحسب بل ثورة ضد الاستبداد الذي ولا شك يكون مصحوبا ومتلازما مع الفساد بكل أشكاله السياسية والإقتصادية والاجتماعية

أما في الثورة الصناعية الثانية والتي بدأت في ألمانيا في 1840 واستمرت تبهر العالم حتى الحرب العالمية الأولى فقد كانت ثورة تكنولوجية أحدثت نقلة نوعية في عالم صناعة الصلب والسكك الحديدية والنفط والمواد الكيماوية والكهرباء، أي أنها أدت إلى دخول عالم الميكنة ودخول العقل البشري في عمليات إدارة الإنتاج. هذه الثورات كان لابد وأن يصاحبها عادة تغيرات مجتمعية بعضها سلبي متمثل في استئثار الطبقة الغنية بكل ثمار الثورة الصناعية ولكن سرعان ما بدت في الأفق تغيرات أو ثورات اجتماعية لصالح المجتمعات مثل زيادة الثروة القومية وزيادة السكان وبناء المجتمعات العمرانية، كما بدأت عملية التحول في العلاقة بين أصحاب الأعمال ومن يعملون عندهم من علاقة الرقيق إلى علاقة الموظف مع صاحب العمل.

 

وربما من باب الملاحظة أن الثورة الفرنسية عام 1789م قد وقعت أحداثها إبان الثورة الصناعية الأولى، ولعل استثار الطبقة السياسية بالثروة الناجمة عن الثورة الصناعية ومحاولة الطبقة الغنية ولوج عالم السياسة مستندين إلى ثرائهم هو ما عجل بقيام الثورة الفرنسية ضمن أسباب أخرى شديدة المحلية. بيد أن اللافت للنظر أن من بين أسباب الثورة الفرنسية وعلى عكس المعروف والمشهور عنها هو استبداد الحكام والأمراء والنبلاء والملوك ولعل مقولة لويس الرابع عشر "أنا الدولة" ماثلة في الأذهان وهي تلخص المشروع الإستبدادي لحكام فرنسا قبيل الثورة. صحيح أن طبقة رجال الدين والبلاط الملكي تميزت عن بقية الشعب الذي عانى من غلاء المعيشة إلا أن الثورة الفرنسية ومعظم الثورات لم تقم على أساس أنها ثورة جياع وحسب بل ثورة ضد الاستبداد الذي ولا شك يكون مصحوبا ومتلازما مع الفساد بكل أشكاله السياسية والإقتصادية والاجتماعية.

 

الثورة وحسابات الساسة

قد يرى بعض الساسة إن ثورة الجياع هي الحل الأمثل لتغيير النظام، ولكنها لن تكون حلا لمستقبل الدول والشعوب، فالحرية مقدمة على كل شيء، وكرامة الناس فوق كل شئ وبدون كرامة ومن غير حرية لن تحقق الثورة أهدافها، فالأصل أن الناس تثور وفقا لتعريف (معجم أو قاموس أكسفورد) لتطيح بالنظام السياسي أو الاجتماعي لتأتي بأفضل منه، وبالتالي فتغيير الوضع الاقتصادي لن يغير من النظام حتى ولو تحولت الدولة إلى دولة الرفاه.

 

الثورة على فكرة الاستبداد والاستعباد والتمييز العرقي والطبقي هو ما نادى به الفرنسي جان جاك روسو في كتابه الفريد (العقد الإجتماعي) الذي بشر فيه بالثورة الفرنسية ومات منفيا قبل وقوعها قبل وقوعها، وتهكم على مقولة أرسطو (إن الناس ليسوا متساوين بحكم الطبيعة، وإنما يولد بعضهم للعبودية ويولد الآخرون للسيطرة)، إلى هذا الحد كانت الأوضاع السياسية على درجة من السوء تفوق سوء المعيشة، وبالتالي فإن الفقر والجوع قد يكونا سببا في غضب الناس لكن للثورة حسابات أخرى.

 

وكما ذكرت فحتى الثورات الصناعية لم تستطع أن تكمل مسيرتها من دون أن تصاحبها أو تلحق بها ثورات اجتماعية ممثلة في نهاية العلاقة المهينة بين أصحاب العمل ومن يعملون عندهم (الامراء أو المالك والعبيد) وبدأت علاقة جديدة هي (المالك – الأجير) ثم (الشركة والموظف) والتي أصبحت مقيدة بقيود وواجبات وحقوق على غير ما كانت العلاقة في الزمن السحيق هي مجرد رق وعبودية وكل ما يتعين عمله مع العبيد هو تحسين شروط العبودية ليس أكثر ولا أقل.

 

الثورة المعرفية

حاولت في المقالات السابقة إعطاء جرعة من المعلومات والبيانات عن الثورة التي تعيشها البشرية منذ ثلاثة عقود وقد لا تدرك أهميتها اليوم وهي ثورة المعرفة، والتي أعتقد اعتقادا جازما أنها نقلت البشرية من مرحلة التجاهل التام، إلى مرحلة التعارف، ومن مرحلة الإتجاه الواحد حيث تنتقل المعلومات في اتجاه واحد إلى مرحلة تداول المعرفة في وقت قياسي. هذه المرحلة من الثورة المعرفية حتما ولا بد وأن يصاحبها ثورة ثقافية كبرى حيث تنتقل الثقافات في لحظة تاريخية من مرحلة العداء الذي يريده الساسة والمستعمرين إلى التعايش والاستفادة المتبادلة التي تريدها الشعوب.

 

الثورة المعرفية ورغم أن البعض يريد استخدامها لحروب الكراهية من شأنها إحداث ثورات مجتمعية هائلة بين شعوب العالم، ومن خلال هذه الثورة المعرفية ستكسب ثورات الشعوب على المستبدين زخما كبيرا ودعما عظيما
الثورة المعرفية ورغم أن البعض يريد استخدامها لحروب الكراهية من شأنها إحداث ثورات مجتمعية هائلة بين شعوب العالم، ومن خلال هذه الثورة المعرفية ستكسب ثورات الشعوب على المستبدين زخما كبيرا ودعما عظيما
 

هذه الثورة التي لا ندرك أهميتها ستكون مصحوبة بتيار ثوري عالمي تتعاطف فيه شعوب في الشمال مع نظيراتها في الجنوب وتستجيب شعوب الغرب لنداءات نظيراتها في الشرق. ومن شأن هذه الثورة المعرفية أيضا وبنفس القوة أن تؤجج مشاعر الغضب والكراهية وتثير الشعوب ضد الاستبداد والفساد في أي بقعة حول العالم، ولو نظرت إلى عالم اليوم ستدرك أن الإعلام ووسائل التواصل العالمية تعاطفت وتبنت قضية مقتل جمال خاشقجي ورغم أن هناك أسباب أخرى لذلك إلا أن الرواية التركية التي نقلت بدقة التفاصيل المرعبة لعملية قتل مواطن سعودي في قنصلية بلاده في تركيا ورغم وجود عداء سياسي غربي ضد تركيا إلأ أن كمية المعلومات والمعرفة نجحت في جلب التعاطف حول العالم مع القتيل وجلب اللعنات من شتى بقاع الأرض على القتلة.

 

الثورة المعرفية ورغم أن البعض يريد استخدامها لحروب الكراهية من شأنها إحداث ثورات مجتمعية هائلة بين شعوب العالم، ومن خلال هذه الثورة المعرفية ستكسب ثورات الشعوب على المستبدين زخما كبيرا ودعما عظيما، كما ستزداد نقمة شعوب العالم الحرعلى ساسة بلادهم الذين يدعمون المستبدين في مناطق عدة حول العالم. ولولا تلك الثورة لكانت ثورة يناير شيئا من الماضي، بينما في الحقيقة هي موجودة حتى تاريخه لأنها محفوظة ليست فقط في صدور وعقول من عايشوها ومن لا يزالون يؤمنون بها بل محفوظة أيضا في سجل الثورة المعرفية التي لا يمكن تحريفها أو دفنها.

 

السؤال الجوهري

هو حول المدى الزمني التي نحتاجه ونحن ندرك حقيقة ثورة المعرفة لكي نحدد وبدقة كنه ثورتنا المباركة ونجيب على السؤال الأهم وهو: هل هي ثورة من أجل رغيف الخبز أم من أجل نيل الحرية واستعادة الكرامة؟ ومن بعد ذلك سيكون الحديث عن كم من الوقت نحتاج ونحن في زمن الثورة المعرفية لكي نعيد شحن بطاريات الثورة ونعيد عملية اطلاقها من جديد؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.