شعار قسم مدونات

علمتني أكثر النساء إجراما بالتاريخ.. "أصحاب القضايا لا يتعبون!"

غولدمائير

كان لقاء من لقاءات كثيرة تجمعنا مع أكاديميين خليجيين، فدارت فيه سُبحة الكلام حتى وقفت عند شاهدة قسوة الأحداث في الثورة السورية، ولعله -لشدة فطنته ورهافة حسّه – شعرَ أكاديمي بحريني بشيءٍ من شكوى مني، أو لامَسَ تعباً في حديثي، فسألني بلُطفٍ وهدوءٍ: هل قرأت مذكرات غولدمائير؟ كان السؤال صادماً، فدفعته عن نفسي كما لو أنه تُهمة: طبعاً لا، ما قرأتها. اقرأها إذاً؛ لتعرف كم تعبَ أهل الباطل من اليهود حتى بنَوا وطنهم، وقتَها ستجد لذة في كل ما تعمله لبناء بلدك، ولن تشعر بالتعب أبداً.

ليس سهلاً على النفس أن تقرأ لواحدة من أكثر النساء إجراماً في التاريخ، لكن عندما ترفع رأسك كارهاً سيرتها الإجرامية تقع عينك على لوحة: "الحكمة ضالّة المؤمن" فتفتح لك طاقة العزم على القراءة والاستفادة. ففي الصفحة الأولى تبدأ التباكي عند الحديث عن طفولتها؛ فتشكو الفقر الشديد الذي عاشته في كييف، وأشد منه ذكراها الأليمة عن خوفها وهي ابنة ثلاث سنوات ونصف من الغوغائيين الذي يهددونهم بمذبحة؛ فقط كونهم يهوداً! وهي إن لم تكتب بلغة أدبية في كل مذكراتها، لكنها نفثت في رَوع القارئ الغربي الذي كتبت له المذكرات تعويذة تستدرّ بها تعاطفه منذ الصفحات الأولى، فيُصغي لها رقيق القلب عليها!

  
وبتسلسل سياسي أكثر مما هو أدبي تمضي فتُعلن حُلمها وقناعتها التامة بالوطني القومي لليهود في فلسطين التي تقول عنها: (كانت هذه الأرض -وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى- مقاطعة مهجورة ومهملة في الإمبراطورية العثمانية تُدعى فلسطين) مهجورة! مهملة! وكانت فلسطين قرّة عين العثمانيين، وفي بقايا الصور قبيل تدنيس طُهرها برجس الصهاينة تُسقط مزاعمها.

   

كم من موظّف يفرح للمرض يصيبه أو يتمارض ليهرب من عمله! وكم فينا من يأخذه العمل لوطنه وشعبه هكذا! وأكوام الأعذار عندنا لا تنتهي؛ فإن طار واحد في الهواء استحضرنا مئات أخرى!

وتكتب عن إنجاز مهم تعدّه علامةً فارقةً في حياتها وهي طالبة في الصف الرابع؛ ألا وهو (أنشأت صندوقاً لجمع الأموال اللازمة لشراء الكتب المدرسية لغير القادرين؛ وكانت تلك هي أول تجربة لي كجامعة تبرعات)، فإن بدا هذا كلاماً عابراً فلن يكون عندما نقرأ لها لاحقاً عندما احتاج الصهاينة مبلغ 50 مليون دولار، فكان مما قالت: (وطفت بكل أرجاء الولايات المتحدة، وسرعان ما تجاوب معنا الجميع واستطعنا جمع 150 مليون دولار)! إنها الحبّ والإخلاص وإن كان للباطل، لكنه تأصّل من الصغر؛ فلننظر على أي شيء ينشِّئ العرب والمسلمون أبناءهم لمواجهة إسرائيل!

 

وأمام هذا العمل العظيم لوطنها لننظر كم كان حظّ نفسها إذ تقول: (وعند عودتي قال لي بن جوريون: إن التاريخ سيذكر يوماً أن امرأةً يهوديةً جمعت من الأموال ما جعل قيام الدولة أمراً ممكناً. لكنني مع ذلك أخدع نفسي؛ فهذه الأموال لم تُعطَ لي، وإنما لإسرائيل)؛ فهل في هذا النص ما يلزمه الشرح أو التعليق، إلا البكاء على حالنا؛ فواحدٌ يتصدر فيعمل شهراً أو شهرين في مؤسسة فيطير في وسائل التواصل ينسب إنجازاتها كلها إليه!

 

وثانٍ يقيم في القضية يخدم فإن طُلب إليه التنحّي كان نقل الجبل من موضعه أهون لأنه يرى انهيار المؤسسة بتركه، وقد يفضّل أن تنهار على أن يتركها ويمضي! وثالث يجمع لفصيله أو منطقته فيكون ما له أكثر مما لمن يجمع لهم ويستبيح بشتى الفتاوى كل شيء يصل إليه حتى صرنا محل اتهام عند غالب المحسنين! وقل رابع وعاشر، والله المستعان.

لكن براعة غولدمائير في جمع التبرعات لم تجعلها تغفل عن أمر أكثر أهمية، فتقول: (وفكرت في أن أقوم بجولة أخرى لجمع التبرعات، لكن حجم هذه التبرعات كان قد بدأ يضمحل، وكنت أخشى من أن يفتر حماس اليهود للتبرع، أو أن نبقى معتمدين كلية على هذه الهبات والمنح من الأموال؛ وهكذا بدأت أفكّر في مصادر أخرى للتمويل)، وفي هذا النص من الدروس في ثورتنا السورية وحياتنا المعاصرة الكثير الكثير؛ فكم من مشاريع تعطلت بسبب الاعتماد بالكلية على هذا الداعم أو ذاك؟! وكم من معارك توقفت وفشلت لمخالفتها هوى الداعم؟! وكم من دول قائمة تهتزّ اليوم بسبب الابتزاز الاقتصادي من دول يدها فوق رأسها بالمنح والقروض؟!

وفي باب التنشئة كذلك تقول غولدمائير عن أمّها: (وخلال الحرب العالمية الأولى حوّلت أمي منزلنا إلى مقرّ للشباب المتطوعين في الفيلق اليهودي، وهم في طريقهم للحرب تحت العلم اليهودي في إطار الجيش البريطاني لتحرير فلسطين من الأتراك)! فبيوت أعدائنا مدارس لأبنائهم لخدمة قضيتهم قبل المدارس، وأهلوهم معلّمون لهم قبل المعلّمين في المدارس.

وتحكي غولدمائير دأبها وهمّتها في العمل لوطنهم المزعوم، حتى كان ولداهما يفرحان عندما تمرض: (وعندما كان الصداع يجبرني على البقاء في البيت كانت سارة ومناحم يرقصان حولي: ماما في البيت، ماما عندها صداع. لكنني كنت قد تعلمت أن الإنسان يعتاد على ما هو فيه إذا كان مضطراً، حتى ولو كان إحساساً دائماً بالذنب)؛ فكم من موظّف يفرح للمرض يصيبه أو يتمارض ليهرب من عمله! وكم فينا من يأخذه العمل لوطنه وشعبه هكذا! وأكوام الأعذار عندنا لا تنتهي؛ فإن طار واحد في الهواء استحضرنا مئات أخرى!

 

ولا عجب أن تفني نفسها في خدمة هدفها؛ فهي تقول: (لقد تعلمت في تلك الأيام درساً هاماً غير سياسي؛ هو أن الأمور لا تحدث فجأة، وأنه لا يكفي أن يؤمن المرء بشيء ما، وإنما يجب أن يكون لديه الجلَد على مواجهة العقبات والكفاح من أجل قهرها). نعم؛ صدقت وهو العدوّ: لا يكفي إيماننا بعدالة قضايانا؛ فالإيمان وهو أعلى أعمال القلوب لا يكمل دون العمل الصالح، وكذا القضية لا يكفي أن نؤمن بها، بل علينا أن نسلك كل الطرق ونذلل كل المصاعب التي تواجهنا حتى تحقيق أهدافنا.

المؤسف حقّاً أن ننتظر في سيرة غولدمائير فنجدها في الدفاع عن باطلها أكثر همةً وإخلاصاً منا في الدفاع عن الحق وقضايانا العادلة، فلعل كرهنا لها يحفّزنا أن نتجاوزها همةً وإخلاصاً وفناءً في سبيل أهدافنا
المؤسف حقّاً أن ننتظر في سيرة غولدمائير فنجدها في الدفاع عن باطلها أكثر همةً وإخلاصاً منا في الدفاع عن الحق وقضايانا العادلة، فلعل كرهنا لها يحفّزنا أن نتجاوزها همةً وإخلاصاً وفناءً في سبيل أهدافنا
 

ويبقى أن غولدمائير لا تنسب الإخلاص والهمّة لنفسها فحسب، فهي تقول مثلاً: (وخلال الحرب وبعدها لم ألقَ يهودياً فلسطينياً واحداً يرفض أية تضحية في سبيل الوصول إلى يهود أوروبا وإخراجهم سالمين، ولم يحدث أن خرجنا على الإجماع بشأن هذا الأمر)؛ فليت شعري! ما بالنا نختلف في كل صغيرة وكبيرة، حتى فيما كان من مسلمات الدين والمروءة، فكم نسبة مَن يتطوعون لخدمة قضايا أمتهم ويبذلون لها ما يستطيعون؟! إن الجواب مُحزِن جداً؛ ليس هذا لخلل أو عيب في قضايانا، لا؛ بل لعله تقصير الدعاة لها، جهلاً أو خيانةً.

لذا لا يمكن أن يكون الحل بالتعطيل الأجوف، فغولدمائير تسخر من العرب -للأسف- في مواضع، منها قولها: (واضطررنا إلى النزول لملء الفراغ الاقتصادي الناجم عن إعلان اللجنة العربية برئاسة المفتي للإضراب العام، على أمل شلّ الييشوف (تقصد المستوطنات) كله، وكان لدينا الردّ البسيط على ذلك: إذا تعطّل الميناء في يافا فليكن لنا ميناء في تل أبيب، وإذا توقف المزارعون العرب عن تسويق محاصيلهم فعلى المزارعين اليهود أن يضاعفوا مجهوداتهم مرتين وثلاثة.

 

باختصار: (كل ما يرفض العرب عمله نعمل نحن على أدائه بشكل أو بآخر). فهذا درس لدولنا وقادتنا أن الرفض مع فرص من غيرنا لا ينفع، فالتعطيل النافع عند انغلاق الطرق كلها وامتلاكك كل نقاط القوة، أما التعطيل أو الانسحاب فهو يعطي خصمك فرصة ذهبية للبحث عما يغنيه عنك، فيزداد قوة على قوته وأنت تحسب أن تحاصره وتقاطعه!

ولعل قائلاً يقول: أما بقي إلا أن نتعلم من عدوّ الإنسانية غولدمائير؟ إن الحكمة ضالة المؤمن؛ أنَّى وجدها فهو أحقّ بها، والمؤسف حقّاً أن ننتظر في سيرة غولدمائير فنجدها في الدفاع عن باطلها أكثر همةً وإخلاصاً منا في الدفاع عن الحق وقضايانا العادلة، فلعل كرهنا لها يحفّزنا أن نتجاوزها همةً وإخلاصاً وفناءً في سبيل أهدافنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.