شعار قسم مدونات

الفقهاء وتغير الأحكام.. تكامل لا تناقض

blogs شيوخ الدين

تتجلى في واقعنا المعاصر ظاهرة جديدة نابعة من ضراوة الظروف التي يمر بها عالمنا الإسلامي واطراب أبنائه وغيابهم أو تغيبهم عن أصول الشريعة ومنهجية التشريع ألا وهي ظاهرة نقد فقهاء الشريعة بدعوى تناقضهم في الفتوى وتبديل الحكم كإباحة بعض الأمور بعد تحريمها أو العمل والحث على ما كان ممنوعاً شرعاً بفتاوى سابقة وكثيراً ما يستدلون لهذه الدعوى بحكم إباحة الطابعة بعد تحريمها عند عدد من الفقهاء عندما دخلت الطابعة العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر وتحريم التلفاز وغيرها من المحدثات الوافدة من الغرب وغيره.

 

فأصبح الفقهاء بعد هذه الأحكام المتناقضة على حد زعمهم عرضة للطعن والاستهزاء وترك الأخذ منهم والاعتداد بعلمهم وهذا إن دل فإنما يدل على وقوعهم في الجهل بالواقع وبأصول الشريعة وأحكامها وإنما تفشت هذه الظاهرة لوقوع أصحابها بعدة مغالطات وجهلهم بكثير من الأمور وسأذكر بعض الردود المجملة لنقض هذه الدعوى الزائفة التي يحيطها الباطل ويتلبسها:

1- إن الله قد أمرنا في كتابه الكريم باتباع شرعه وسخر له العلماء من يقيم حكمه على أرضه في كل زمان يحميه من التحريف والتلفيق (طمع الشيطان في تحريف كثير منه وتغيير ألفاظه بالزيادة والنقصان والكذب في متونه وإسناده فأقام الله له من يحفظه ويحميه، وينفي عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فبينوا ما أدخل أهل الكذب فيه وأهل التحريف في معانيه) شيخ الإسلام ابن تيمية الرد على البكري ( 1/ 171 ).

 

الذي يضبط المصالح والمفاسد هي معايير دقيقة منضبطة شرعية بعيدة عن الهوى والمزاج ولأن المصالح فطرة بشرية يسعى لها جميع الناس فإن لكل ثقافة فلسفتها في فهم المصالح

وقد أمرنا الله باتباعهم فهم سبيل النجاة الموصلون الى حكم الله في كل زمان ومكان ونازلة ولا يخلوا زمان منهم قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)(59) النساء وقد قال غير واحد من أهل العلم أن أولي الامر في هذه الآية هم العلماء والأمراء الذين يبتغون رضوان الله وشرعه فإنما فضلهم لعلمهم لا لذاتهم والطعن فيمن عرف منهم أنه من أهل العلم والفضل لهو من الكبائر.

2- إن الحكم على الأشياء والنوازل المحدثة التي لم يرد فيها نص يبين حكمها بذاتها تخضع للقياس وقواعد المصالح والمفاسد وعلى ذلك يرتكز دور الفقيه في التعامل مع النازلة على ثلاث مرتكزات أساسية وهي:

أ- الإلمام بآيات القرآن وفقهها والحديث وفقهه والناسخ والمنسوخ ومواطن الإجماع والخلاف وقواعد أصول الفقه والاجتهاد والمصالح والمفاسد والمقاصد المعتبرة وضوابطها.

 

ب- الوعي بطبيعة النازلة والاحاطة بكل جوانبها وعللها ومضامينها ومآلاها وادراكها ادراكاً تاماً يزيل اللبوس عن كل ما يخصها ومعرفة مصالحها من مفاسدها (ومصالح الدنيا تعرف بالضرورات التجارب والعادات والظنون المعتبرة) (العز بن عبد السلام قواعد الأحكام ص13).

 

ج- إخضاع النازلة لميزان الشرع بنصوصه وقواعده حتى ينزل حكم الله الذي هو أساس الحق والرشاد وغيره أساس كل باطل وفساد (ولن يتمنكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع وهو حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر)، (ابن القيم الجوزية إعلام الموقعين ص78).

3- لما كانت النوازل والحوادث خاضعة لميزان المصالح والمفاسد كان الحكم عند المفتي لما يترجح له منها فبعض التقنيات الوافدة من الغرب مثلاً لما ثبت رجحان مفسدتها في بادئ الأمر حكم علها بالحرمة كالحكم بحرمة المطبعة سداً لذريعة وقوع التحريف في الكتب الشرعية مثلاً ولما غلبت المصلحة تغير الحكم الى الحل لأن الحكم مبنيٌ على وجود مفسدة فلما زالت المفسدة تغير الحكم بل ربما تحول الحكم الى الندب أو الوجوب إذا كان مما لا بد للأمة من استخدامه لما يحقق لها من مصلحة راجحة حتى لا تكون حكراً لأعدائها كشبكة الانترنت مثلاً فهي مما لا بد للأمة من توظيفها لمصلحتها في نشرة الدعوة ورد الشبهات.

 

وإذا قصرت الأمة في استخدامها كانت مقصرةً ملامة رغم ما احتواء شبكة الإنترنت على كثير من المفاسد والتي أوقعت العدد الأكبر من المسلمين فيها كمواقع الإباحية والإلحاد والطعن بالإسلام وثوابته والألعاب والفيديوهات الماجنة والمضيعة للوقت وهذا يستدعي منا كمسلمين أن ننشأ كفاءات في كل الاختصاصات حتى يكونوا عوناً للفقهاء في بحث كل محدث ووافد فتوافق فتوى العالم حكم الله بعد البيان والتقصي.

4- المصلحة المفسدة المعتبرة في الترجيح هما المصالح والمفاسد الشرعية لا العرفية والشخصية فالذي يضبط المصالح والمفاسد هي معايير دقيقة منضبطة شرعية بعيدة عن الهوى والمزاج (ولأن المصالح فطرة بشرية يسعى لها جميع الناس فإن لكل ثقافة فلسفتها في فهم المصالح فالثقافات وإن اتفقت في جلب المصالح ودفع المفاسد واتفقت في أصول المصالح والمفاسد واتفقت على كثير من المصالح والمفاسد التفصيلية إلا أن لكل ثقافة قواعدها ومنطلقاتها في فهم المصلحة) (د.فهد العجلان التسليم للنص الشرعي ص118).

 

فلا نحاكم المصالح والمفاسد بناءاً على معايرغير معتبرة شرعاً (المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الآخرة لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية) (الشاطبي الموافقات ص2/63 5) والكلام في ضوابط المصالح والمفاسد المعتبرة شرعاً يطول وليس هنا موضع مناقشتها.

5- للفقيه بحريم أي وافد من التقنيات والوسائل والحق أن هذا كلام حق أريد به باطل فالقاعدة صحيحة والتطبيق خاطئ فتتمة القاعدة هي: أن الأصل في الأشياء الاباحة مالم يرد دليل يحرمها فلو كانت مندرجة تحت أصل محرم أو غلبت عليه المفسدة في ذاتها أو مآلاتها فهي حرام.

6- الطعن في الفتاوى المتناقضة كما يزعمون لا يبرر الفتاوى الارتجالية والاستباقية في تحليل كل وافد وحديث فقد أمرنا الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم بالتبين والحذر حتى لا نقع في مغبة الباطل كما في الحديث الصحيح (عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

حكم الفقهاء على نازلة معينة بالحرمة والمنع ثم إباحتها أو إيجابها ليس تناقضاً بل تكاملٌ منهجي لأن الحال قد يخفى منه شيء أو يتغير والحكم يوزن بميزان شرعي دقيق
حكم الفقهاء على نازلة معينة بالحرمة والمنع ثم إباحتها أو إيجابها ليس تناقضاً بل تكاملٌ منهجي لأن الحال قد يخفى منه شيء أو يتغير والحكم يوزن بميزان شرعي دقيق
 

7- قد يخطئ المجتهد في اصابة الحق باجتهاده لعدة أسباب كأن يخطأ في الاستدلال أو يخفى عليه بعض ما يتعلق بالنازلة المراد بيان حكمها وهو بهذه الحال يحمد ولا يطعن به مالم يقصر أو يتبع هواه وهو مأجور عند الله كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر). أخرجه البخاري في صحيحه.

8- كثير من المنفتحين انفتاحاً مطلقاً على الحضارة الغربية يستنكرون فتوى التحريم لانبهارهم بتلك الحضارة ومخرجاتها التقنية وهذه سنة كونية لا عاصم منها الا اتباع الحق والشرع ولذلك عنون الامام ابن خلدون في كتابه النفيس المقدمة الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائد وسرد فلابد من عرض كل وافد على ميزان الشرع مهما كنا مغلوبين أو مقصرين في جانب من الجوانب الحياتية.

الخلاصة: أن حكم الفقهاء على نازلة معينة بالحرمة والمنع ثم إباحتها أو إيجابها ليس تناقضاً بل تكاملٌ منهجي لأن الحال قد يخفى منه شيء أو يتغير والحكم يوزن بميزان شرعي دقيق فعندما ترجح كفة المفسدة يحكم على الأمر بالحرمة أو الكراهة وعندما ترجح كفة المصلحة يحكم على الأمر بالحل أو الندب أو الوجوب والميزان عرضة لتغير الأحوال أو خفاء بعض ما يتعلق بالنوازل ولعمري إن هذا لفخر لكل مسلم أن يكرمه الله بشريعة تهديه الى ما هو خير له في دينه ودنياه وأن يسخر له علماءً يرشدونه سبيل الله وشرعه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.