شعار قسم مدونات

هندسة الإدراك المجتمعي.. كيف نستطيع تشكيل قناعات الجماهير؟

blogs مجتمع

سياقاتُ تحريك الإدراكِ المجتمعيِّ والسيطرة عليه تتمثل على أشكالٍ عدةٍ. تتمحور هذه السياقات حول تلبية الاحتياجاتِ والرغباتِ الفردية والمجتمعية وتحويلها إلى واقعٍ مصطنعٍ يتم ترويجه على أنَّه الواقعُ الحقيقيُّ الذي يجب التعايش والتعامل معه من قبلِ الجميعِ.

الإعلامُ وما يتبعُهُ من وسائل جديدةٍ وقديمةٍ يشاركُ في رسم الإدراكاتِ وتطعيمِهِا حسب الحاجة والضرورة التي أٌنشأ من أجلها. ويتبع في ذلك سياسات كثيرة، منها ما يسمى بـ لعبة الإمتاع وأسطورة العدو وهو تجسيدُ العدوِ والشرِّ في جهةٍ أو منظمةٍ. فبعدَ أحداثِ 11 سبتمبر كان هناك ربطٌ حكوميٌّ موجهٌ لربطِ الحادثة بصدام حسين والعراقيين حيث كان يظن بادئ ذي بدء 3 بالمئة من الأمريكيين أنَّ صدام حسين له صلة بالحادثة في عام 2001. وفي عام 2003 زادت نسبة الأمريكيين الذين يعتقدون بعلاقة صدام بمنفذي العملية الإرهابية، وأن أغلب المنفذين للحادث هم عراقيون وبنسبة 44 بالمئة وذلك من خلال بث معلوماتٍ وتقاريرَ كاذبة وبشكلٍ مكررٍ للمجتمع المستهدف لبناء وعيه في هذا الجانب.

 

إنَّ الهدفَ من هذا التوجيه الإعلاميِّ والسياسيِّ هو إقناعُ الشعبِ الأمريكيِّ بغزوِ العراق وجعل الشعب يعيش ويستحضر مخاوف ما حصل في هوروشيما ونكازاكي إذا لم يتم وضع حدٍّ لنظامِ صدام، الذي يهدد أمن المنطقة بقنابله النووية. فيما مضى كان العرب إذا ما أرادوا أن يرفعوا منزلةَ أحدِهِم أو ينزلونه إلى الحضيض قالوا فيه شعرًا حتى يحفظه صغيرهم قبل كبيرهم ويقوله القاصي والداني وعلى ذلك أمثلة كثيرة لا يسعه التفصيل هنا. أما في عصرِنا فقد تجددت الطرق وبلغت العقولُ السُبُلَ في بناء الواقع المعرفي حتى يتحول هذا الواقع سلوك ومن ثم إلى طبعٍ خاصٍ أو عام. وتتبع في ذلك منهجياتٌ ونظرياتٌ كثيرةٌ منها، نظرية التلقيح أو التطعيم، فأن المتلقي يتأثر بالعرض المتواصل لمضامين وأفكار معينة لا ينتبه لها، لكنها تسقط لديه احترامًا لشيءٍ معين أو تشجعه على تخطي محرماتٍ معينة، أو يواجه انحرافات سلوكية أو غيرها بلا مبالاة، كتاب هندسة الجمهور.

فكرة الشذوذ على سبيل المثال روجت على أَنَّها شيءٌ طبيعيٌّ بشكلٍ متسلسلٍ، وبالنتيجة تشكل الرأيُّ العام حتى أُعلِن عن زواج المثليين ودعت بعض الحكوماتِ له، وقامت مؤسساتٌ حقوقيةٌ بالدفاع عنه

تُنَشَر الأفكار والقيم أو حتى المنتجات بشكل ممتع أو ضمنيٍّ بين السطور فتتسلل إلينا الرسائل الضمنية بشكل غير مباشرٍ لا ندركه إلى عقلنا اللاواعي فتمتزج نظرية التطعيم بنظرية الإمتاع فيتكون نموذجًا رائعًا في تكوين الإدراك الإنساني وهندسته بشكلٍ فنيٍّ فائقِ الجودةِ والفائدةِ إن كان في مكانه. إلا أننا نشاهد في الكثير ممَّا يُبثُّ خلطًا كبيرًا لما يحويه الإنسان من قيمٍ وأفكارٍ، فيتحول السارق إلى بطل، وتكسر قيمة التقاليدِ والعاداتِ، ويصبح الخروج عن الفطرة هو السليم والصحيح.

 

ففكرة الشذوذ على سبيل المثال روجت على أَنَّها شيءٌ طبيعيٌّ بشكلٍ متسلسلٍ، وبالنتيجة تشكل الرأيُّ العام حتى أُعلِن عن زواج المثليين ودعت بعض الحكوماتِ له، وقامت مؤسساتٌ حقوقيةٌ بالدفاع عنه. فإذا ركزنا ونظرنا بنظرة المحلل المتتبع لهذه السياسات لعرفنا ما سوف يُسنُّ ويباع وما سوف يروج له في قابل الأيام من أفكارٍ وقيمٍ تتحولُ بالنتيجة إلى سلوكٍ جمعيٍّ يصبحُ هو الواقعُ، وما سواه هو الشذوذ أو رجعية يلام صاحبها وينبذ ويوصم ويؤذى في مجتمعه.

صناعة الوعي أو صناعة الرأي العام نحو قضيةٍ معينةٍ وطريقةِ تشكيله وتنفيذه هو من أهم العلوم الفكرية والعملية في نفس الوقت. فنجد السلوكيات تتغير وأخرى تظهر ما بين ليلة وضحاها. على سبيل المثال واجهت شركاتُ السجائرِ في بدايتها مشكلة في التسويق للنساء، فاقترح أحد صانعي السلوك وبناء الإدراك عمل مظاهرات ووقفات داعمة للنساء ومطالبة بحقوقهن المسلوبة وكانت السجائر تمثل مشاعلَ الحرية في هذه المسيرات حتى وصلت نسبة التدخين إلى مستوىً عالٍ في أمريكا وغيرها من الأمثلة الكثيرة على ذلك.

مجتمعاتنا العربية تحتاج إلى نخبٍ تدمج الفكر والتنظير مع العمل والنزول إلى شارعٍ وفق منهجياتٍ وأساليبَ علمية مستوحاة من القديم والجديد
مجتمعاتنا العربية تحتاج إلى نخبٍ تدمج الفكر والتنظير مع العمل والنزول إلى شارعٍ وفق منهجياتٍ وأساليبَ علمية مستوحاة من القديم والجديد
 

تعتبر سياسة التخويف أو المتاجرة بالخوف بمصطلح أدق من أبرز الطرق المستخدمة في صناعة الوعي والرأي العام نحو القضايا المصيرية إلى جانب أسطورة العدو وتخويف الجماهير منه، حيث يقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا باري جلاسنر إن سياسة التخويف تعتمد على ثلاثة أساليب، وهي التكرار وجعل غير المألوف مألوفًا والتضليل. إنَّ الأحزاب الطائفية في العراق تلجئ إلى طرقٍ مختلفةٍ لتأجيجِ الرأيِّ العام وصناعةِ القرارِ وعلى ذلك شواهد كثيرة. منها استخدام الاختلاف العرقي والمذهبي في العراق وخاصة في وقت الانتخابات فنجد الخطاب السياسي يتغير وفق المرحلة وقربها من الانتخابات.

 

ففي انتخابات 2014 كانت الشعارات طائفية وعرقية بامتياز، إلى خروج داعش وانتهاء وصف بعض المحافظات بالإرهابية. أما في انتخابات 2018 فتغير الخطاب بشكلٍ واضحٍ فتحول من التخويف إلى شعارات وطنية تجمع الوطن وتهدف لتحقيق السيادة والمواطنة حتى أن من يقود المليشيات أصبح ينادي بالوطنية والمدنية ودولة الكفاءات.

إنَّ بناءَ الفكرِ والإدراكِ المجتمعيِّ يجبُ أن يكون وفق أُسسٍ تتفق عليها النخبة، ويشتركون بها من خلال التعامل المباشر والميداني مع المجتمع. إنَّ مجتمعاتنا العربية تحتاج إلى نخبٍ تدمج الفكر والتنظير مع العمل والنزول إلى شارعٍ وفق منهجياتٍ وأساليبَ علمية مستوحاة من القديم والجديد. فتتكون نواةً قويةً يدور حولها مجتمعاتٍ متماسكة، متكافلة، متكاملة، متلاحمة، تكون هي الجوهرُ الحقيقيُّ الذي يستطيع أن يشكل الإدراك المجتمعي ويهندسه بالشكلِ الصحيحِ الذي يجب أن يكون عليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.