شعار قسم مدونات

تلاميذ وحقائب ومخيم!

blogs تلاميذ مدرسة

تعلو وجوههم النضرة ابتسامة رقيقة ناعمة تداعب نسمات الصباح النَّديّ الذي حطّ للتوّ من علو السماء، يأذن للحياة أن تنهض من بين أشداق الظلام؛ لتمنح الأرض يومًا جديدًا، تراهم يتدفقون كأسرابٍ من نور، يغمرون شوارع المخيم الضيقة التي تغوص كخطوط دقيقة في عمق قطاع غزة وتفصل ما بين بيوته المتلاصقة، يغدون إلى مدارسهم سيرًا على الأقدام؛ فتتململ تحت خطواتهم الناعمة ذرات غبار الشوارع الرملية، ويتشكلون بتناسق غاية في الروعة والجمال في جماعات عفوية، فترى الكبير منهم يشدّ على كف الصغير، والصديق يحيط بذراعيه كتف الصديق، يتكورون على بعضهم، يتقاسمون الأقاصيص، يتهامسون ويتلاقفون الضحكات.

 

وفتاة صغيرة على حافة مقابلة تقود نفرًا من إخوتها وأبناء عمومتها رغم حداثة عهدها بالحياة بخطوات رشيقة وحركات متقنة تثير الدهشة والإعجاب تتجاوز بهم السيارات المتقاطعة والعابرة بين الشوارع الملتوية حول أزقة المخيم المتجاورة، في حرص منها على الوصول بسلام إلى مقاعدهم المدرسية، حتى تبدو مسيرتهم إلى المدارس كلوحة فنية رسمت بريشة (بيكاسيو) وتمتماتهم كنغمة موسيقية صاغتها أنامل (بيتهوفن).

شَعرُ الأولاد مصفف بعناية على أحدث قصات الشعر وأجملها، وتتفاوت ملابسهم ما بين درجات اللون الأزرق في تصاميم لا تخلو من لمسات عالمية رغم أن كثير منها محاك بأيد محلية، تبرق أعينهم بنظرة فيها من الثقة والاعتداد بالنفس ما فيها، رغم ما يخالطها من أمارات نعس يطوي آخر ظل له عن الوجوه، يحاكون الرجال في مشيتهم، ويقلدون الراشدين في تصرفاتهم، وكأنهم يستعجلون الحياة في القدوم والأيام في الإقبال، لكن الطفولة لا تنفك عنهم فتتسلل في سهو تصرفاتهم وتنساب في شيء من أفعالهم.

على الرغم منالمعاناة إلا أن الأطفال لديهم من العزيمة والإصرار على المضي في دروب الحياة ما تعجز عن اقتلاعه أعتى آلات القتل والإجرام الصهيونية، وقد أسقطوا كل مراهنات العدو على هزيمة نفوسهم وقهر إرادتهم
على الرغم منالمعاناة إلا أن الأطفال لديهم من العزيمة والإصرار على المضي في دروب الحياة ما تعجز عن اقتلاعه أعتى آلات القتل والإجرام الصهيونية، وقد أسقطوا كل مراهنات العدو على هزيمة نفوسهم وقهر إرادتهم
 

أما البنات فشعرهن مجدول بنعومة فائقة الدلال على شكل (عقصين) يتمايلان على أكتافهن و(شبرة) بيضاء كتاج يتربع على رؤوسهن، وطوق يجمع ما تحته من شعر يتدلى كخيوط حرير يؤكد الجمال بالجمال ويضاعفه، ويتزيَّن بلمحة من حياء يتوارى ببراءة في طرف العيون. حقائبهم مطبوع عليها صور أبطال السينما الخارقين، أو أبطال الملاعب المحترفين، وأخرى مزينة بنقوش وردية وزهور برية، تصاميمها مفعمة بالتفاؤل وتجمع ما بين الألوان الزاهية والذوق الحسن، ليست كلها جديدة وليست باهظة الثمن، لكن لا ضير في ذلك عند طفل اقتات المخيم واقتات المخيم منه.

كل ما في ذلك المشهد البهي يدفع العقل للإبحار في تفكير عميق لا يخلو من متاهات لا قرار لها، وتتقافز مع كل فوج من تلك الأفواج الزاحفة إلى مستقبلها علامات استفهام واستغراب وتثور الأسئلة حائرة عن سر تلك التركيبة النفسية التي يتشكل منها هذا الجيل الفريد، فهؤلاء الأطفال سكبت على رؤوسهم حروب متتالية ومعارك جائرة ظالمة ذاقوا فيها الخوف والوحشة واستشهاد الأحبة والأقران وعاشوا الرعب والأرق أيامًا طوالًا وما زالت أيامهم تتقلب بين قصف الطائرات وغاراتها الهمجية، وفيهم أبناء الشهداء والجرحى والمبعدون والمنفيون والأسرى، وقد حرموا من أدنى حقوقهم المشروعة التي نصت عليها القوانين الدولية وضاع بين زحمة الحروب وتحت أزيز الرصاص ورعود المدافع حقهم الإنساني في طفولتهم وسرقت منهم فرصتهم في الاستمتاع بطفولة آمنة وهادئة.

وعلى الرغم من ذلك كله لديهم من العزيمة والإصرار على المضي في دروب الحياة ما تعجز عن اقتلاعه أعتى آلات القتل والإجرام الصهيونية، وقد أسقطوا كل مراهنات العدو على هزيمة نفوسهم وقهر إرادتهم وإسقاطهم تحت إرادته ورغبته، ويبدو في كل خطوة من خطواتهم وهمسة من همساتهم ونظرة من نظراتهم أنهم ليسوا كأطفال مدللين منعمين ركنوا في تسير أمور حياتهم على ولاة أمورهم بل لا تشك للحظة بأنهم قد صاغوا لأنفسهم أهدافًا جليلة وأمنيات عتيدة تستحق أن يكافح في سبيلها، وعندهم من القوة الإيجابية ما يمكنهم من أن يتخطوا الصعاب والمحن وأن ينتصروا عليها بما فيها من قسوة وجفاء، ويملكون استعدادًا فطريًا لمبارزة زمانهم من أجل الظفر بالحياة النابضة بكل ما يستحق البقاء.

أمام هذا المشهد تسقط محاولات الفهم والتفسير إذ تعجز الحلول المنطقية أن تصل إلى جواب صواب ويستسلم القلب طوعًا للصمت ويترك لدبيب السرور فرصة التسلل إليه ليستمتع دون أن يفسد عليه شاغل بتذوق ما لديهم من حب للحياة وهيام بالمستقبل وبما يملكون من حس الفكاهة وقدرة على الضحك والسعادة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.