شعار قسم مدونات

كيف أسس "الجيل الخيايب" جمهورية للمهمشين؟!

blogs - social media

الإنسان كائن يحب أن يشعر بالقيمة، لذلك تجده ينفر من أي مكان لا يشعر فيه بالقيمة ومن هذا المنطلق يبحث باستمرار عن هامش يشعر فيه بالقيمة، وإن لم يشعر بالقيمة في مجال نافع ويعود بالنفع على أمته والبشرية، بالتأكيد سيحتضنه مجال آخر وهامش آخر عديم النفع ولكنه يسير وسهل وبإمكان الجميع أن ينضم إليه، هذا الهامش يعيش فيه الكثير حتى أنهم أنشأوا جمهورية خاصة بهم… "جمهورية المُهمشين".

سكان الجمهورية التي أتحدث عنها ليسوا من عالم آخر ولا يعيشون منعزلين في جزيرة مهجورة لا أحد يعلم عنهم شيئاً لذلك عاشوا على هامش الحياة، سكانها أشخاص نعيش معهم ونأكل معهم ونتجاذب أطراف الكلام معهم؛ لكن كل فرد منهم يعيش مُنفرداً في هامش.

سكان الجمهورية.. طفل يقضي الساعات يلعب ألعاب الفيديو ويغيب عن الواقع، وفتاة تسرف وقتها في متابعة الفاشونيستة، وشاب همه الوحيد هو بناء عضلات جسمه ومتابعة خبراء الرياضة البدنية، وأم تهدر ساعات يومها مستخدمة أحد التطبيقات للحديث عن أحوال الخلق التي لا تعنيها، وأب يعود منهك بعد يوم شاق ليعيش في هامشه مع أحد أجهزته الذكية؛ بالمناسبة لم يخطأ مخترعها حين أسماها "أجهزة ذكية"؛ لأنها سرقت وقتنا ووعينا بذكاء ودهاء!

كم عدد سكان الجمهورية؟!
الجيل الخايب يعيش بين انعدام الهوية الذي تجعله منتمياً لدين أو حركة أو جماعة.. فيكون هذا الانتماء دافعاً له للإنجاز، وبين القيمة التي يجدها في عوالمه الافتراضية، وبين هذا وذاك نحن نخسر هذا الجيل

ربع إلى نصف سكان الكرة الأرضية، لا مبالغة في ذلك.. التهميش والانعزال عن الحياة وتجنب خوض غمارها والعيش في عالم افتراضي هي أزمة خانقة يمر بها سكان الكرة الأرضية منذ ما يقارب عقد كامل. يقضي الفرد 4 ساعات على أقل تقدير أمام شاشة ذكية -أياً كانت تلك الشاشة- 4 ساعات يومياً يهدرها الفرد بلا طائل؛ ولكن الأمر لا يتوقف عند الوقت المهدور بل يتعداه إلى تكوين عوالم وهمية يعيشها فيها الفرد متوهماً الإنجاز والقيمة في الحياة ولكن قيمته ووجوده الحقيقي وهميَّ كالوهم الذي يعيش فيه!

صحيح أن العوالم الافتراضية فتحت للعالم آفاق جديدة ومساحات إبداع لم تكن معروفة مسبقاً ومنصات تعبير تتصدى للقمع الذي يجده الفرد في الحياة الواقعية، هذه العوالم كما يصفها الشيخ سلمان العودة "عوالم الأدوات البسيطة التي لا تتجاوز امتلاك جهاز محمول التي سمحت للملايين بالتعبير عن صوتها وكسرت احتكار الإعلام وغيَّرت كثيراً من المقولات التقليدية المتعلقة بالسلطة أو بالمعارضة، هذه العوالم (صوت الناس الداخلي) المعبر عن تطلعات اليوم والغد، عوالم ألغت سلطة الرقابة؛ فالرقابة فيها رقابة ذاتية تنطلق من الإنسان ذاته"، لكن هذا التأثير الطيَّب لم يحدث إلا مع القلة والكثرة انقسموا إلى متفرجين لمنجزات القلة أو غارقين في بحر الوهم واللاإنجاز!

عادة يتم التعامل مع هذه الأزمة على أنها أزمة الجيل الصاعد ويصفونهم بـ"الجيل الخايب" أو "جيل الأيباد".. أما كبار السن فهم يستحقون الراحة والبقاء في تلك العوالم بلا حساب ولا عقاب، بالنتيجة قد قاموا بدورهم في الحياة وحان وقت الراحة، ويستمرون بترديد مناقب الصحابة وأبطال الأمة كقولهم أسامة بن زيد رضي الله عنه قاد جيش كامل وهو في مثل سنك، محمد الفاتح فتح القسطنطينية وهو لم يبلغ عشرين عام وغيرها من الأمثال، غير مدركين البيئات التي نشأ فيها أسامة بن زيد ومحمد الفاتح والشعور بالانتماء وامتلاك قضية تحدد لهم أهداف الحياة وكل هذا لا يمتلكه الجيل الخايب!

نحتاج لوجود شخصيات تتصدر وتكون بمثابة قدوة وإلهام؛ شخصيات قريبة من الجمهور، عقلانية الطرح، نهضوية الأهداف وتتفهم حاجات الجيل ومطالبهم وشكاواهم، ولا تسعى لشهرة من خلال طرحها
نحتاج لوجود شخصيات تتصدر وتكون بمثابة قدوة وإلهام؛ شخصيات قريبة من الجمهور، عقلانية الطرح، نهضوية الأهداف وتتفهم حاجات الجيل ومطالبهم وشكاواهم، ولا تسعى لشهرة من خلال طرحها
 

والجيل الخايب يعيش بين انعدام الهوية الذي تجعله منتمياً لدين أو حركة أو جماعة.. فيكون هذا الانتماء دافعاً له للإنجاز، وبين القيمة التي يجدها في عوالمه الافتراضية، وبين هذا وذاك نحن نخسر هذا الجيل وتكسبه جهات أخرى، لها فيه مآربها الخاصة.

وأزمة الجيل الخايب وجمهورية المُهمشين أو بالأصح أزمة سكان الكرة الأرضية في العقد الفائت لا تُعالج بالابتعاد عن الشاشات الذكية والعودة إلى زمن ما قبل ظهورها، فهذا العلاج غير منطقي وغير قابل للتطبيق، وبرأيي أن علاج هذه الأزمة يتم من خلال تحقيق توازن بين فعالية الإنسان في الحياة الواقعية وبين شعوره بالقيمة المستمد من العوالم الافتراضية؛ وذلك التوازن يمكن تحقيقه من خلال تفعيل دور هذه العوالم وتحويلها الى عوالم تنموية وتربوية يشترك فيها المتلقي والمُلقي في المشاركة والنقد والتعبير.

 

عوالم يشعر فيها بالقيمة الحقيقية وينتقل شعوره هذا إلى الحياة الواقعية، عوالم تمنحه رؤية واقعية وتخرجه من دائرة الوهم إلى دائرة الإنجاز، وهذا لا يمكن إلا بطريقة واحدة فقط، وهي وجود شخصيات تتصدر وتكون بمثابة قدوة وإلهام؛ شخصيات قريبة من الجمهور، عقلانية الطرح، نهضوية الأهداف وتتفهم حاجات الجيل ومطالبهم وشكاواهم، لا تسعى لشهرة من خلال طرحها وتدرك أنها تستخدم القوة الناعمة تلك القوة التي تُخْضِع جمهور عريض لتغيير مستمر وتأثير عميق، قدوات تتصدر وتكون بديل عن من يعتبره الجيل قدوات أو ما يوصفون بالمؤثرين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.