شعار قسم مدونات

صراع القيم.. يصافِحونك بيد وبالأخرى يخبئون الخِنجر المسموم!

blogs تأمل

إن صراع القيم من الموضوعات الشائكة التي شغَلت بال المفكرين، وعلماء الاجتماع والباحثين منذ زمن بعيد وإلى اليوم، نظراً لأن القيم تشكل عنصراً أساسياً ومكوناً رئيسياً لثقافات الشعوب، ومن ثم فهي تشكل سلوك الأفراد داخل المجتمع على كافة المستويات والمجالات. ولأن القيم نفسها ذات أدوار هامة في نحت التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، وفي التطور السياسي، والجمالي للمجتمع، فهي كما يقول ماكس فيبر: التعبير عن مبادئ عامة وتوجهات أساسية، بل اعتقادات جماعية ذات أبعاد دينية وسياسية واقتصادية.

بهذه الطريقة تكون القِيم ظاهرة عامة، وعالمية، بمعنى أنه لا يوجد مجتمع سواء كان بسيطاً أو مُعقّداً، بدائيا أو متقدماً، يخلو من وجود مجموعة من التوجهات القيمية. فالقيم تتغلغل في كافة أنواع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكذلك تؤثر على سلوك الأفراد وتشكل ضغوطاً قوية عليهم. ومن ثم فإن القيم ترتكز على الهوية الثقافية للمجتمعات. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، ما هي القيم؟ وما الذي يجعلها تتصارع وتتنازع؟ هنا لا أقصد الصدامم بين القيم المحلية، والقيم الكونية أو العالمية، أو ما يطلق عليه صامويل هنتنغتون صراع الحضارات، وإنما الصراع القيمي داخل المنظومة القيمية الواحدة. والسؤال الأخير لماذا وكيف يحدث هذا الصراع القيمي؟

وقبل الخوض في الإجابات، ينبغي عليّ أن أوضح أنه مهما عمِل المجتمع على تنشئة أفراده بصورة جيّدة، واكسابهم قيمهم ومُثُلهم العليا من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية، إلا أن القيم الشخصية للأفراد قد تتصادم، وتتصارع. فهي تؤثر وتتأثر بثقافة المنظمات التي يعملون بها أو ينتمون إليها، مثل الأسرة، الدين، البيئة، المدرسة، والجماعات الأخرى التي ينتمي لها الفرد في حياته. كما أن ثقافة هذه المنظمات تستمد من ثقافة المجتمع الذي تعمل فيه وقيمه وعاداته، اذ يتشرب الفرد القيم والمعايير الاجتماعية من الأشخاص المهمّين في حياته، مثل: الوالدين، المدرسين، القادة في العمل، والمقرّبين، والزملاء، والأقران. وبالتالي من المحتمل حدوث صراع قيمي وإن كان طفيفاً بين هذه المنظّمات.

هناك صراعاً مُحتدماً بين القيم الدينية والقيم الاجتماعية داخل المنظومة القيمية الواحدة، ولكن هذا الصراع لا يأخذُ شكلاً ظاهراً وإنما يميل إلى التّخفي والاستتار، هذا التخفي يطلق عليه القيم الضمنية

اهتمت العلوم الاجتماعية، والإنسانية بموضوع القيم، ففي علم الأنثروبولوجيا على سبيل المثال ينظر إلى القيم على أنها: مجموعة من الأبنية الفكرية المتوارثة اجتماعياً والتي تتعلق بما يستخدمه وما يملكه وما يفعله الناس، وتنطوي على الاعتقاد فيما هو مرغوب فيه، وما هو مرغوب عنه، وتحكم علاقة الإنسان بذاته وبالآخر، وتنعكس في السلوك المُلاحظ.

وقد صاغ الأنثروبولوجي "مالينوفسكي" تعريفاً للقيمة، حيث يرى بأنها ارتباط قوي وحتمي بين الكائنن الحي (الإنسان) وبعض الأهداف، والمعايير، والأشخاص المُعيّنين الذين يُعتبرون وسيلة لإشباع حاجات الكائن الحي. وللقيم تصنيفات عديدة، فهناك القيم الدينية ومصدرها الدين، والقيم السياسية وتتأتى من النظام السياسي والقانون، والقيم النظرية، والقيم الاجتماعية التي مصدرها المجتمع، القيم الاقتصادية، والقيم الجمالية وغيرها.

والآن ما الّذي يجعل هذه القيم تتصارع؟ وحتّى لا يكون كلامي عائماً، ومن ثم يسألني القراء أي قيم تقصد، وعن أي مجتمع تتحدث، سأعيد صياغة السؤال بطريقة أخرى، ما الذي يجعل القيم الاجتماعية تتصادم مع بعضها البعض داخل المجتمع الواحد؟ وما الذي يجعل قيمة كالمشاركة مثلاً تتصادم مع قيم أخرى؟ وهل القيم الاجتماعية ذات تأثير قوي من القيم الدينية؟ أو بكلام آخر ما الأقوى "العيب" أم "الحرام"؟

تركز هذه المقالة في الأساس على استحالة وجود ما يمكن تسميتها بالقيم النقية، أو القناعات الثابتة التي لا تتغير مع الظروف، لأن القناعات والتصورات وحتى القيم هي أمور دينامية ومتحرّكة، ولا تعترف بالثبات. ولذلك فمن الممكن أن يغير الأفراد تصوراتهم وقيمهم الشخصية مع مرور الزمن ومع تبدل الأحوال. وتكمن المشكلة أن هناك اعتقاد بين عامة الناس بثبات القيم، وهذا أمر موضع خلاف كبير ونقاش مرهق ومتشعب. وعلى كل حال يذهب المنظرون الاجتماعيون إلى أن القيم الشخصية تتغير، وتتبدل، فهي ليست جامدة، لكنها تستغرق وقتاً طويلا من أجل أن تتغير إلى الأسوء أو الأفضل. ويشبه بعضهم عملية تبدل القيم الاجتماعية بمحاولة احداث ثقب على صخرة بقطرات من الماء، فعلى الرغم من طول المدة التي تستغرقها العملية، لكنها في النهاية قد تحدث وهذا هو المهم.

ومن المهم أيضاً في هذا السياق التفريق أو التمييز بين صراع القيم، وتبدلها، فليس كلّ تبدل لشيء يعني صراعاً، وليس كلّ نزاعاً بين شيئين يعني تغييراً، لأن الصراع شيء والتبدل والتغير شيء آخر. فالصراع القيمي الذي أعنيه هنا، هو وجود قيميتين متنازعتين داخل المنظومة القيمية الواحدة. ولو أخذنا المجتمعات العربية كنموذج نجد أن هناك صراعاً مُحتدماً بين القيم الدينية والقيم الاجتماعية داخل المنظومة القيمية الواحدة، ولكن هذا الصراع لا يأخذُ شكلاً ظاهراً وإنما يميل إلى التّخفي والاستتار، هذا التخفي يطلق عليه القيم الضمنية. وهو مصطلح صاغه "كلايد كلاكهون" ليعبر به عن القيم المستترة وراء قيم أخرى.

صراع القيم أمر مرهق ومتعب، تتفاعل مع أفراد المجتمع، وتظن للوهلة الأولى أنهم يحبونك، ولكنك سرعان ما تكتشف اللعبة، وترى بأم عينيك التناقض العجيب الذي يعيشون فيه
صراع القيم أمر مرهق ومتعب، تتفاعل مع أفراد المجتمع، وتظن للوهلة الأولى أنهم يحبونك، ولكنك سرعان ما تكتشف اللعبة، وترى بأم عينيك التناقض العجيب الذي يعيشون فيه
 

وبخصوص الصراع بين القيم الدينية، والقيم الاجتماعية، رغم أن القيم الاجتماعية في كثير من الأحيان تشتق من الدين إلا أنه وفي حالات معينة تتغلب القيم الاجتماعية على القيم الدينية. ففي الإسلام على سبيل المثال يقول الحديث النبوي (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، ولكن عندما يتعلق الأمر بالزواج، يسأل الرجل عن أصله، وفصله، ونسله، وهل كان جدّه السابع والخمسين نبيلا أم لا؟ وفي كثير من الأحيان تفشل بعض الزيجات ليس لأن من جاءنا ذو خلق دنيء، ولا يتمتع بمكارم الأخلاق، أو لأن دينه يختلف عن ديننا، وإنما لأن قيمنا الاجتماعية ترفضه، لأنه من جماعة معينة، اثنية، قبيلة، بلد.. إلخ.

 

وهذا هو الصراع القيمي في أبسط معانيه. يقول الدين نعم، ويقول المجتمع لا. إن صراع القيم قد يؤدي إلى تخلف المجتمع، وتأخره، لأن الصراع القيمي لا ينتهي سريعاً. المجتمعات الأخرى تعبر في سلم التقدم، تتطور، وتصل إلى البعيد، أما مجتمعاتنا فتعيش في ذاك الصراع الذي يتجدد، ويتشكل في صيغ أخرى. والذي يجعل الصراع محتدماً أن أغلب الأفراد ينظرون إلى العيب "سلاح اجتماعي" على أنه أقوى من الحرام "حكم ديني". وهذه الفكرة تعني ببساطة أن ينشأ الفرد على قبول، أو رفض فكرة ليس لأن قيمه الدينية تنهى عنها، وإنما لأن مجتمعه يرفضها. فتقول الأم لابنتها: عيب عليك.

صراع القيم أمر مرهق، ومتعب، ومرعب. تتفاعل مع أفراد المجتمع، وتدخل معهم في شبكة علاقات، وقد تظن للوهلة الأولى أنهم يحبونك، وأنهم يريدون لك الخير، يحبّون رؤية الابتسامة على ثغرك، يفرحون لنجاحك ويصفّقون لك بحماس وأنت تحرز تقدماً في الحياة، على صعيد الدراسة، أو على صعيد العمل، أو حتى على الصعيد الشخصي، لأنك تتوهم أن قيمهم الدينية، والاجتماعية، والنظرية التي تربو عليها تُجبرهم على فعل ذلك، ولكنك سرعان ما تكتشف اللعبة، وتحل اللغز، وتفك الطّلسم، وترى بأم عينيك التناقض العجيب الذي يعيشون فيه، والصراع المحتدم الذي يشتعل داخل منظومة القيم الخاصة بهم. وقتذاك تسكنك مشاعر مضطربة، وتقول لنفسك: يا إلهي! لقد كانوا يمدون لي يد، وبالأخرى يخبئون الخنجر المسموم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.